تراوح الأزمة في اليمن مكانها بفعل حرب تحالف آل سعود في وقت ظلت اتفاقيات السلام وأخرها اتفاق الرياض تواجه مصير الفشل ذاته.
وقدم نظام آل سعود اتفاق الرياض على أنه خطوة مهمة نحو إنهاء الحرب، لكن بعد أكثر من شهرين على حفل التوقيع بين الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، و”المجلس الانتقالي الجنوبي” فإن تحقيق السلام ظل بعيد المنال.
وأصبح مصير اتفاق الرياض مشابها لاتفاقية استوكهولم التي تم توقيعها قبل 13 شهرا برعاية الأمم المتحدة بين حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي المعترف بها دولياً، وحركة “أنصار الله” (الحوثيون).
اثنان فقط من بين محاور اتفاق استوكهولم الثلاثة ما زالا جديرين بالذكر بعد 13 شهراً. فقد فشل اقتراح تبادل 16 ألف أسير على الرغم من تبادل بضع مئات منهم خلال الأشهر الأخيرة، ومن ضمنهم إطلاق سراح عدد من العسكريين السعوديين المحتجزين عند الحوثيين. وقد جرت هذه التبادلات من خلال وساطة قبلية وخارج إطار الأمم المتحدة، على الرغم من مشاركة الصليب الأحمر.
لكن قضية الحُديدة عرفت، ولو بطريقة هامشية، مصيراً أفضل: فعلى الرغم من انتهاك وقف إطلاق النار في المحافظة بشكل متزايد، شهدت المدينة ذاتها انخفاضاً ملحوظاً في حدة النزاع، ونشرت بعثة الأمم المتحدة لاتفاقية الحديدة مراقبين في خمسة مواقع حساسة داخل المدينة ومن حولها.
وكانت إعادة نشر القوات بصفة واسعة مجرد عملية “تجميلية” لم يترتب عنها انسحاب حقيقي للقوات الحوثية من الموانئ الثلاثة المعنية. كذلك لم تعرف أحدث “الاتفاقات” التي جرى التوصل إليها تحت رعاية بعثة الأمم المتحدة طريقها إلى التطبيق، إلى حد الآن.
ويبدو أن الهدف من تجديد مجلس الأمن لمهمة البعثة الأممية لدعم اتفاق الحديدة لمدة ستة أشهر، أي حتى منتصف يوليو/ تموز 2020، لا يعدو أن يكون ضمان عدم تدهور الوضع في المدينة خلال هذه الفترة. ولكن لسوء الحظ، يختلف الأمر بالنسبة إلى الجوانب الأخرى من الأزمة اليمنية.
لنذكر أولاً أن الجبهات العسكرية الأخرى بين الحوثيين وخصومهم ظلت على حالها من دون تغيير يذكر طوال عام 2019، والمنطقة الوحيدة التي شهدت نشاطاً (ثابتاً إلى حد كبير) هي منطقة الضالع، حيث اشتبك الحوثيون مع القوات الجنوبية.
ويبرز فحص دقيق لهذه الجبهة بطريقة أوضح العلاقات غير العادية التي تربطها مختلف الأطراف المناوئة للحوثيين: ففيما تدافع القوات الانفصالية لـ”المجلس الانتقالي الجنوبي” عن الحدود القديمة بين الجمهورية العربية اليمنية والجمهورية الديمقراطية الشعبية لليمن، تقاتل قوات هادي في منطقة الجمهورية الديمقراطية الشعبية لليمن سابقاً، من دون دعم من “شريكها” المجلس الانتقالي الجنوبي!.
للتذكير، بقي الوضع الإنساني على حاله إلى حد كبير طوال سنة 2019، وما زال الملايين من الأشخاص يعتمدون على المساعدات الإنسانية. وبقيت الأجور التي تدفعها الحكومة لـ 1,2 مليون موظف مدني غير كافية على الإطلاق، إذ تصل في أحسن الأحوال إلى نصف راتب شهري كل ثلاثة أشهر تقريباً على مستوى البلاد.
وإذا كان من الواضح أن الحصار المالي المفروض على الحوثيين يفسّر تردي الوضع في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، يفترض مبدئياً أن يكون الحال أفضل بكثير في المناطق “المحررة”، إذ تتوافر أموال سعودية وإماراتية كثيرة، ما يثير التساؤل عمّا حلّ بهذه الأموال.
وكما كان الحال منذ سنة، تشير التقديرات إلى أن نحو 24 مليون يمني بحاجة إلى مساعدة إنسانية ما، انطلاقاً من الماء والصرف الصحي، إلى التغذية والخدمات الصحية.
فعلى المستوى الصحي سجلت أزمة الكوليرا رقماً قياسياً في 2019، بما يقارب 900 ألف حالة خلال الأشهر العشرة الأولى من السنة (لم تتوافر بعد معطيات السنة كاملة) مقابل 300 ألف حالة خلال 2018. وعلاوة على ذلك، انتشر وباء حمى الضنك في 2019، فضلاً عن الأضرار النفسية الناجمة عن الحرب.
يتعرض اليمنيون من جميع الفئات العمرية أكثر فأكثر للصدمات، ويعيشون حالة ضعف، وهم بالتالي عرضة للمرض بسبب سنوات من نقص التغذية والرعاية الطبية. ووضعية الفئات الأكثر ضعفاً، أي الأطفال وكبار السن والنساء الحوامل أو المرضعات، أسوأ طبعاً.
وهناك أيضاً تباين في الأوضاع المحلية، حيث إن المناطق غير الحوثية لها إمكانية أكبر في الوصول إلى المساعدات الإنسانية التي يمنحها عضوا التحالف الرئيسيان، وهما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
نصل بهذا إلى الاتفاقية الثانية، أي اتفاقية الرياض الموقّعة في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 بين الحكومة المعترف بها دولياً و”المجلس الانتقالي الجنوبي”.
ففي أغسطس/ آب 2019، طرد “المجلس الانتقالي الجنوبي” الحكومة المعترف بها دولياً من عدن، عاصمتها الرسمية المؤقتة.
ويُشكّل الصراع المفتوح بين هاتين التركيبتين الأساسيتين في التحالف المناهض للحوثيين تهديداً كبيراً للتحالف ولحكومة هادي، إذ تحوّلت بفقدانها لعاصمتها إلى مجرد حكومة في المنفى، بغضّ النظر عن كون العديد من أعضائها رفيعي المستوى يقيمون في العاصمة السعودية الرياض معظم الوقت، منذ أن طُردوا من صنعاء في 2015.
وقد أجبر هذا الحدث، الذي حصل قبل أسابيع قليلة من إعلان دولة الإمارات انسحابها الكامل من الحرب اليمنية، السعودية على التدخّل المباشر. لكن على الرغم من الإعلان الفوري لمحادثات في جدة بين الخصمين، مدعومة بتصريحات من الإمارات، تطلّب الأمر أكثر من ثلاثة أشهر للوصول إلى توقيع اتفاق الرياض بين ممثلي حكومة هادي و”المجلس الانتقالي الجنوبي”.
ويتمثل أهم محاور هذا الاتفاق بانسحاب جميع العناصر المسلحة ومعداتها من المدن ودمج كل العسكريين وأعوان الأمن ضمن القوات الرسمية للتحالف تحت سلطة وزارات الدفاع والداخلية على التوالي، وتشكيل حكومة جديدة تتكون من 24 عضواً، نصفهم جنوبيون (إذ يفوق حجم الجنوبيين هذا العدد في الحكومة الحالية). والأهم من ذلك، يقرّ الاتفاق بأن تُسيَّر كل عائدات الدولة عبر البنك المركزي اليمني الموجود في عدن الذي سيكون مسؤولاً أمام البرلمان.
ويفترض تنفيذ الاتفاق وفق جدول زمني صارم، لكن بعد نحو شهرين من بدايته، لم ينفذ شيء في الوقت المحدد، بل تمثل الإنجاز الوحيد بعودة رئيس الوزراء وبعض الموظفين السامين المكلَّفين المالية، إلى عدن، والذين كُلِّفوا صراحةً ضمانَ دفع رواتب موظفي الأمن، وهو أمر لم ينفذ بعد هو الآخر. ويثير الاستيلاء المؤقت لـ”المجلس الانتقالي الجنوبي” في الأول من يناير/كانون الثاني على أربع حاويات مليئة بأوراق نقدية جديدة أسئلة عديدة في هذا السياق، إذ ربما كان تلميحاً للحكومة حتى تدفع رواتب قواتها!.
في الوقت نفسه، لم يعد أي وزير آخر إلى عدن، ووقعت اشتباكات متفرقة بين “المجلس الانتقالي الجنوبي” والقوات المرتبطة بالحكومة على خطوط الجبهة الفعلية في محافظتي أبين وشبوة، حيث عمل الطرفان على تعزيز مواقعهما.
وتسمح مجرد نظرة بملاحظة أن الجبهات الحالية تحدد المناطق التي يسيطر عليها كل طرف، وهي تؤكد على الخصوص حدود تأثير “المجلس الانتقالي الجنوبي” في المناطق الأصلية لزعمائه (منطقة الضالع، الجزء الأكبر من وسط وشرق محافظة لحج، والأشرطة الساحلية لأبين)، وهي المناطق التي ينحدر منها قادة الفصيل “المنتصر” في المواجهات الداخلية التي حصلت سنة 1986 داخل الحزب الاشتراكي اليمني قبل توحيد شطري اليمن. أما باقي أبين والجزء الأكبر من شبوة، فهي تحت سيطرة الحكومة، وتعد وجوهها الرئيسية، ومن بينهم الرئيس هادي، من الفصيل المهزوم في عام 1986.
ويُبرز ذلك بوضوح الجذور التاريخية والطبيعة الفصائلية لهذه الولاءات، ويكشف بالمناسبة أن ادعاء “المجلس الانتقالي الجنوبي” تمثيله كل الجنوب أبعد ما يكون عن الصّحة.
في ما يخصّ تنفيذ اتفاق الرياض، لا يبدو الوضع بعد شهرين من التوقيع مشجعاً كثيراً. ففضلاً عن المواجهات والمأزق المذكور أعلاه، انسحب “المجلس الانتقالي الجنوبي” أول الأمر من لجان تنفيذ الاتفاق، لكن شُكِّلَت لجان جديدة واتُّفق على جدول جديد.
بيد أن قصفاً جوياً بتاريخ 18 يناير/ كانون الثاني على المخيم العسكري لمأرب الذي يعدّ من الحرس الرئاسي بعد العودة إلى عدن سبّب مقتل 60 جندياً، وهو يهدد اليوم هذا الاتفاق.
بالإضافة إلى ذلك، يتعيّن تطبيق بنود اتفاق الرياض تحت إشراف لجنة من التحالف ومراقبتها، وهذا يعني لجنة سعودية نظراً لانسحاب الإمارات. وهو ما يثير مخاوف بشأن سيادة الدولة اليمنية وحكومتها المعترف بها دولياً. يذكر أن السلطة الممنوحة لاتفاق مجلس التعاون الخليجي في 2011 كانت إحدى الخطوات المؤدية إلى تفكك البلاد.
ويكمن أحد الشروط الأساسية لنجاح اتفاقية الرياض في إرادة الإمارات تعليق دعمها العملي المباشر لـ”المجلس الانتقالي الجنوبي”، الذي يعتمد عليها مالياً ومادياً ودبلوماسياً منذ نشأته سنة 2017. لكن هجوم 18 يناير/ كانون الثاني يطرح أسئلة جدية عن دور الإمارات.
بالإضافة إلى المشاكل الكامنة في طبيعة الاتفاق، تجدر الاشارة إلى ما يأتي:
أولاً، أُبرم الاتفاق بين الحكومة و”المجلس الانتقالي الجنوبي” فقط، وهو يتجاهل التنظيمات الانفصالية الأخرى في الجنوب، فضلاً عن أي قضية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أخرى.
ثانياً، لن تستسيغ المحافظات التي تحصلت على مراقبة هامة لعائداتها المرتبطة أساساً بالنفط، أي مأرب وحضرموت وشبوة، اقتراح تسليم كل عائداتها للبنك المركزي اليمني في عدن.
ثالثاً، لقد منعت الجماعات الانفصالية العديدة الناشطة في عدن إلى حد الآن اجتماع البرلمان، حتى أن الاجتماع الوحيد الذي انعقد كان في سيئون في إبريل/ نيسان 2019.
بصفة عامة، يتسم اتفاق الرياض بذات مميزات الاتفاقيات اليمنية السابقة: مزيج من آليات التنفيذ غير الدقيقة، وآجال غير واقعية، وتسلسل طوباوي. وإذا كانت الأمم المتحدة مشاركة في اتفاقية استوكهولم فقط، فإن دورها الحالي والمحتمل جدير بأن يذكر هنا.
من الواضح الآن أن هذا الاتفاق بدلاً من أن يضع الأمم المتحدة ومبعوثها الخاص في قلب الأزمة اليمنية، كان له أثر معاكس. فإضافة إلى إخفاق الأمم المتحدة في محوري تبادل الأسرى وإغاثة تعز، ترتب عن نجاحها الجزئي فقط بالحديدة تهميش مبعوثها الخاص، ويعود ذلك بصفة كبيرة إلى مقاربة هذا الأخير التي كانت مبنية على “جانب وحيد من المشكلة”.
كان التقدّم الدبلوماسي المسجل على الجبهة الحوثية نتيجة للهجوم الصاروخي في 14 سبتمبر/أيلول على منشآت أرامكو في السعودية. حدث جعل النظام السعودي يدرك أن أميركا برئاسة دونالد ترامب لن تحميه من كل التهديدات.
ويعمل نائب وزير الدفاع الجديد في نظام آل سعود خالد بن سلمان، شقيق ولي العهد، بعزم على إخراج بلاده من المستنقع اليمني وإبعاد المملكة عن مواجهة أميركية إيرانية متزايدة الخطورة. وقد دخل في محادثات مباشرة مع الحوثيين في السعودية وسلطنة عمان، ومن المرجَّح أن يشمل الأمم المتحدة لأسباب تجميلية تتمثل بإضفاء موافقة دولية على أي اتفاق يُبرَم ثنائياً.
وفي الختام تعاني كل من اتفاقيتي استوكهولم والرياض من مشاكل كبيرة، فهما لا تتناولان القضايا الأكثر أهمية التي تواجه الدولة أو الشعب اليمنيين، فكلتاهما جزئية وتركز على قضايا فردية بدل البحث عن حلول شاملة. جرى الاتفاق على كلتيهما تحت ضغط دولي بدلاً من ضغط داخلي، وهما بالتالي تستجيبان لحاجيات العرّابين بدلاً من احتياجات اليمنيين. ومن المستبعد أن تحقق أية واحدة منهما نجاحاً خلال عام 2020 من دون تغيير جوهري في النهج من قبل الأطراف المتحاربة، ولا توجد إلى حد الآن أي إشارة إلى ذلك.
قد تشهد هذه السنة ربما النهاية الرسمية أو شبه الرسمية للمشاركة الدولية في القتال، ولكن من غير المحتمل أن يكون ذلك نهاية لمعاناة اليمنيين، لأن الصراع السياسي والعسكري الداخلي بين مختلف الفصائل مرجح لأن يستمر، ولا سيما بسبب التفتت العميق والضغائن التي غيّرت البلاد خلال نصف العقد الماضي.
من دون سلام، من غير المرجح أن يتعافى الاقتصاد اليمني، فيما تواصل الظروف الاجتماعية وآفاق التنمية تدهورها على المدى الطويل، ويؤدي الاحتباس الحراري إلى تفاقم البيئة التنموية الصعبة أصلاً على اليمنيين.