أفقد نظام آل سعود المملكة دورها الريادي في العالم الإسلامي باتخاذه مواقف مشينة إزاء تعرض المسلمين للقمع والاضطهاد وفي مقدمة ذلك ما يجرى في الهند لاعتبارات اقتصادية رخيصة.
ويبرز هذا التخلي في موقف نظام آل سعود مما يجري من تمييز ضد المسلمين على يد حكومة ناريندرا مودي، ليس فقط في كشمير، ولكن أيضاً داخل شبه القارة الهندية حيث ثالث أكبر تجمُّع للمسلمين بالعالم.
وتناولت مجلة (ذا ديبلومات) الأمريكية قصة العلاقات بين الهند ونظام آل سعود من خلال التحول الذي طرأ على قضايا المسلمين حول العالم من جانب الرياض في عهد الملك سلمان ونجله محمد.
فقد واجهت الهند احتجاجات ضد قانون الجنسية الذي وضعته حكومة مودي طوال الشهر الماضي، والذي سيُؤدّي حتماً في النهاية إلى سجلّ السكان الوطني، الذي يقول النقاد إنه تمييزيٌّ ضد المسلمين وغير علمانيٍّ في نواياه. وهو ما يطرح السؤال عن أسباب صمت الدول الإسلامية في الشرق الأوسط عن الاضطرابات داخل أكثر ديمقراطيات العالم اكتظاظاً بالسكان، والدولة الثالثة عالمياً من حيث أعداد المسلمين.
وتكمُن الإجابة في أكثر من عقدٍ من التقارب، وإعادة الاصطفاف، والحقائق الجيوسياسية والاقتصادية الجديدة التي فرضت تغييراً على قواعد اللعبة في كبرى العواصم العالمية، إلى جانب نيودلهي.
وفي عام 2004 داخل ولاية غوا الساحلية جنوبي الهند، والتي تُعرف بشواطئها الرملية ومنتجعاتها الانتقائية، التقى قادة عالم النفط والغاز لصياغة استراتيجيات وجسور جديدة خلال وقتٍ سيطر فيه الخوف من “نفاد النفط”.
حينها أجرى وزير الخارجية الأمريكي السابق ريكس تيلرسون، الذي كان نائب الرئيس التنفيذي لعملاقة الهيدروكربونات الأمريكية ExxonMobil، زيارته الأولى للهند.
وكان حاضراً يومها عبدالله جمعة، الرئيس التنفيذي السابق لشركة أرامكو السعودية، التي يُمكن اعتبارها أغنى شركات العالم.
وحينها عزَّز جمعة خط صدعٍ استراتيجيٍّ جديد لنيودلهي، حين قال إن الرياض ستدعم احتياجات أمن الطاقة في البلاد، وهو دعمٌ مُهم لأمةٍ يبلغ عدد سكانها 1.3 مليار نسمة وتعتمد على واردات النفط والغاز من الشرق الأوسط لدفع اقتصادها الصاعد.
كان ذلك في بداية العقد الأول من القرن الـ21 تحديداً، حين بدأ التغيُّر في فكر الرياض يظهر على الساحة، بالتزامن مع النهضة المُحتفى بها للاقتصاد الهندي بوصفه قصة نموٍ كُبرى في آسيا، إلى جانب الصين.
وفي عام 2003، كانت زيارة أبو بكر زين العابدين عبدالكلام، الرئيس الهندي حينها، للإمارات العربية المتحدة تمثل الرحلة التأسيسية التي ستُبنى عليها الروابط الاقتصادية المُعاصرة بين الخليج والهند لاحقاً.
وفي يناير/كانون الثاني من عام 2006، كانت زيارة الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود لنيودلهي، بوصفه الضيف الرئيسي للبلاد في اليوم الجمهوري، تمثل عهداً جديداً في العلاقات السعودية-الهندية.
إذ وقَع البلدانِ “إعلان دلهي” تحت قيادة رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ، والذي يُمثّل دفةً لقيادة شراكةٍ اقتصادية وأمنية وسياسية متجددة. وأعقب ذلك زيارة سينغ للرياض عام 2010، وتوقيع “إعلان الرياض” المشترك.
وأدَّى الإعلانان إلى إعادة توجيه العلاقات المملكة والهند بشكلٍ بارز بعيداً عن الأوضاع الراهنة في التسعينيات، حين كانت علاقات الهند مع الخليج أقل من مثالية، وتتمحوّر بشكلٍ رئيسي حول العمالة المهاجرة والتبادلات النفطية والحوالات المالية الضرورية من أجل الاقتصاد الهندي.
ولكن في أعقاب عام 2004، تغيّر الوضع إلى حدٍّ كبير، إذ صارت الهند اقتصاداً ضخماً بحاجةٍ إلى مزيد من النفط، في حين كان من المتوقع أن تنخفض الإمدادات إلى الغرب بالنسبة لدول الخليج.
وهذا يعني أنَّ أمثال الرياض وحلفاءها المجاورين في الإمارات كان يتعيَّن عليهم إعادة رسم نهجهم تجاه نيودلهي، إلى جانب إعادة معايرة نفوذهم تجاه باكستان، حيث كانت الرياض تفرض سيطرةً قوية على النظام السياسي والمؤسسات الدينية والجيش.
ومن أجل وضع الأمور في نصابها، كان من شبه المستحيل تقريباً أن تُرحِّل المملكة أو الإمارات أياً من المُشتبه في كونهم إرهابيين إلى نيودلهي خلال التسعينيات.
ورغم ذلك، تمكّنت الهند من إعادة المواطنين الهنود من المملكة والإمارات خلال السنوات القليلة الماضية، ومن ضمنهم المطلوبون من أجل أنشطةٍ مُؤيدةٍ لـ “الدولة الإسلامية”، وهو ما يشير إلى انفتاحٍ جديد في العلاقات بين نيودلهي والرياض.
وفي أغسطس/آب عام 2015، أجرت القوات الجوية الهندية زيارتها التجميعية الأولى إلى المملكة في حين نفّذت الهند والإمارات مناورتهما البحرية الثنائية الأولى في مارس/آذار عام 2018. ومن المقرر عقد المناورة البحرية المشتركة الأولى بين نيودلهي والرياض في مارس/آذار من العام الجاري.
وتعجّب البعض من حقيقة ازدياد الألفة بين الهند ونظام آل سعود بسرعةٍ واضحة في عهد حكومة مودي. ومن المثير للدهشة أن الحكومة التي يقودها حزب “بهاراتيا جاناتا” الهندوسي القومي نجحت في تحريك العلاقات المتبادلة بين الهند والخليج بسرعةٍ كبيرة، رغم مواجهتها انتقادات بسبب السياسات المزعومة لمناهضة الأقليات وقضايا القتل والعنف المعادية للمسلمين في بعض ولايات البلاد.
وتفسير هذا الوضع أمرٌ مُعقّدٌ بقدر السؤال نفسه؛ إذ يكمُن التفسير في نهجٍ واقعيٍّ وضيّق للسياسة الخارجية، وقيود المصالح في العلاقات الثنائية، وتصوُّر الأمن المحلي والإقليمي بالنسبة للجانبين.
وظهر ولي العهد محمد بن سلمان عازماً على السير على خطا ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد من أجل تقليل اعتماد اقتصاد المملكة على إدمان أموال النفط مستقبلاً، وزيادة الاعتماد على الأعمال والصناعة والخدمات وما إلى ذلك.
ويندر العثور على اقتصادات السوق الكبيرة التي تبحث عن الاستثمارات وتُوفّر العوائد وسط بيئةٍ سياسية مسالمة، ولا شك في أن الدول النامية مثل الهند (إلى جانب الصين) تمتلك شهيةً كبيرة للنفط، علاوةً على تعطُّشها للاستثمارات الأجنبية من أجل تحفيز النمو.
وفي الواقع، من المتوقع أن تتفوّق الهند على الصين في طلب النفط بحلول منتصف هذا العقد الجديد، وذلك وفقاً لوكالة الطاقة الدولية.
وأبقت فترة ولاية مودي الأولى في عام 2014 على التنمية الاقتصادية بمقدمة الأجندة السياسية. إذ وفَّر فوزه بالانتخابات وتشكيله حكومة ذات أغلبية، لا تُقيِّدها السياسات الائتلافية، هيكلاً أكثر قابلية لأن تتعامل معه ممالك الخليج.
وأجرى مودي زيارته للمملكة والإمارات، واستقبل محمدَ بن سلمان في نيودلهي إبان أزمة قتل جمال خاشقجي الكبيرة، رغم افتقار تلك الزيارة إلى التغطية الإعلامية الكبيرة.
وفي مقابل ذلك، تمكَّن مودي من افتتاح أول معبدٍ هندوسي في الإمارات عام 2018، وحصل على أعلى أوسمة الشرف للمدنيين في أبوظبي والرياض.
ومثَّل ذلك قفزةً كبيرة منذ عام 2014، حين كانت الإمارات والسعودية شديدتَي الحذر في أثناء استقباله بوصفه الزعيم الجديد؛ نظراً إلى تاريخه حين كان رئيس وزراء ولاية غوجارات خلال أعمال الشغب الطائفية بجودهرا عام 2002، والتي أدّت إلى فرض الولايات المتحدة حظر سفرٍ على زعيم الولاية حينها.
ولكن تجدُر الإشارة إلى أن العاصمتين الخليجيتين -وسفراءهما في نيودلهي- لم تتقدّما بطلب إحاطةٍ إلى الحكومة الهندية حينها إبان أعمال شغب عام 2002، والتي كان يقودها حزب “بهاراتيا جاناتا” أيضاً بزعامة رئيس الوزراء الراحل أتال بيهاري فاجبايي.
وكانت الاضطرابات الطائفية السابقة في الهند، مثل تدمير مسجد بابري بولاية أُتر برديش عام 1992، قد أثارت ضجةً كبيرة في منطقة الخليج رغم عدم وجود الإنترنت أو الشبكات الاجتماعية أو الاتصالات الحديثة في ذلك الوقت.
لكن الوقائع الأخيرة شهدت تأسيس تواصلٍ أكبر مع الرياض وأبوظبي حول قراراتٍ مثل إلغاء الحكم الذاتي في ولاية جامو وكشمير خلال أغسطس/آب من العام الماضي، إذ زار مستشار الأمن القومي الهندي، أجيت دوفال، الرياض للقاء محمد بن سلمان؛ من أجل تقديم تفاصيل خطوة الهند المُتعلّقة بكشمير، وهو ما كان له وقعٌ إيجابي.
وفي خضم تطوُّر العلاقات مع نيودلهي؛ كان أحد الإنجازات من وجهة نظر الهند هو الحصول على مساحةٍ كبيرة لنشر رسائلها المعاكسة لصوت باكستان المسموع في مجلس التعاون الخليجي ومنظمة التعاون الإسلامي، وهو ما سمح للهند بالتغطية على وجهة نظر إسلام آباد المتعلقة بكشمير داخل العالم الإسلامي.
وتجدر الإشارة هنا تحديداً إلى دعوة وزيرة الشؤون الخارجية الهندية، سوشما سواراج، إلى مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي؛ لإلقاء خطابٍ في مارس/آذار من العام الماضي، رغم الاعتراض الشديد من باكستان، التي أحبطت محاولة الهند الانضمام إلى المنتدى عام 1969.
وأثَّر هذا التواصل مع الهند، خلال السنوات القليلة الماضية، في تفرُّد باكستان بالمنطقة أيضاً، كما تبيّن مؤخراً حين حاول رئيس الوزراء، عمران خان، حضور قمة كوالالمبور الإسلامية، التي نظَّمها الزعيم الماليزي مهاتير محمد إلى جانب إيران وقطر وتركيا.
وألغى خان زيارته لاحقاً بعد تدخُّل الرياض، التي عارضت القمة منذ البداية. وتُشير التقارير إلى أن باكستان قد تحصل في المقابل على اجتماعٍ حول كشمير في منظمة التعاون الإسلامي، إلى جانب دفعةٍ بقيمة 200 مليون دولار من محمد بن زايد؛ لمساعدة اقتصادها المتقلّب.
ويعتقد في الهند أن تواصل محمد بن سلمان ومحمد بن زايد مع مودي يمثّل أكبر نجاحٍ للتواصل المؤسسي في نيودلهي على مر السنين.
ورغم أن الجبهة الاقتصادية ما تزال الساحة الأكثر أهميةً هنا، فإن العام المقبل قد يكون حاسماً لإظهار ما إذا كان هذا التواصل سيُترجَم إلى استثماراتٍ ملموسة على أرض الواقع في المنطقتين أم لا.