تكبد حرب أسعار النفط التي أشعلها ولي العهد محمد بن سلمان مع روسيا منذ أسابيع، المملكة خسائر بمبلغ 250 مليون دولار يوميا وهو يزيد العجز في موازنتها العامة.
ويعتبر مراقبون أن حرب بن سلمان النفطية تشكل تهورا بالغا، متسائلين كيف يمكن لدولة أن تقرر بنفسها أن تخسر مبلغ 250 مليون دولار من عائداتها النفطية يوميا.
وتأتي حرب بن سلمان النفطية بالتزامن مع تخفيض موازنة المملكة والذي يعني صرف مبالغ أقل على القطاعات التي ترعاها الحكومة مثل الصحة والتعليم، وهذا يعني أن نسبة أقل من المصرفيات ستكون متاحة غير التي كانت موجودة مسبقاً في الميزانية أو التي كان محددا فيه.
كما أن برنامج التقشف الذي فرضه نظام آل سعود يزيد من التدهور الاقتصادي خاصة أنه يأتي في وقت حرج في ظل مواجهة خطر جائحة تفشي فيروس كورونا والخسائر القياسية المترتبة عليها.
وينتقد المراقبون اقتصار التمويل الحكومي للقطاعات الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة بحوالي 60 أو 70 مليار ريال فيما لا تهتم الحكومة بأصحاب المشاريع الصغيرة والمواطن العادي وهو أمر لا يخدم المجتمع.
وتاريخيا ظلت ميزانية المملكة مبنية على أساس سعر النفط ما بين 65 إلى 80 دولار بحيث يمكن الحصول على هذه العائدات من النفط لكي تكتمل الميزانية، ولكن عندما يتراجع النفط إلى أقل من 23 دولار يعني ما لا يقل عن ثلث العائدات سوف تختفي من الموازنة.
ونتيجة للتدهور الاقتصادي فإن حالة الرفاهية اختفت من المجتمع السعودي الذي تحول إلى مجتمع الكفاف لأن المواطن لم يعد لديه الدعم الذي كان يتلقاه سابقاً من مصاريف للكهرباء والماء والنفط الرخيص.
كما أن الوافدين الذين يتجاوز عددهم خمسة مليون شخص، أصبحوا يعانون الأمرين وهو ما يبرز في تراجع التحويلات المالية الخارجية بفعل تراجع الدخل وتصاعد فرض الضرائب عليهم.
وفي خضم أزمة فيروس كورونا، تتصاعد المطالب برفع ميزانيات الصحة أكثر من 30 إلى 40% من حجم الموازنة، وتعزيز التكافل الاجتماعي ومسؤولية ذلك تقع على الدولة التي فرضت ضرائب دون رحمة.
كما أن الاحتياطات المالية ليس أولى أن تذهب إلى الاستثمارات في صناديق الاستثمارية العالمية، إذ حاليا تبخر أكثر من 30% منها خلال الثماني سنوات الماضية.
ومنذ وصوله للحكم قاد بن سلمان تغييرات هائلة في المنظومة الاقتصادية، جاءت أو فُرضت على النظام في ظل الانخفاض الحاد والمتقلب لأسعار النفط العالمية، إلى جانب التكلفة العسكرية للحرب التي يخوضها في اليمن.
لذا بدا جلياً العجز في ميزانية الدولة السعودية، وزيادة وتيرة الاقتراض المحلي والخارجي، إضافة إلى السحب من الاحتياطات النقدية خلال الأعوام الماضية.
هذه التطورات ألقت بظلالها على أهم أعمدة الحكم التي يقوم عليها النظام السياسي في السعودية؛ ألا وهو الاعتماد على نظام الريع الاقتصادي.
وإذا كان النظام الريعي يعتمد وجوده على توزيع الريع (في الحالة السعودية توزيع موارد إنتاج النفط)؛ فإن العائلة الحاكمة بالسعودية تستحوذ على هذا المصدر وتحتكر “شرعيته” كلياً.
وقد وظّف نظام آل سعود الحاكم لعقود نموذج الريع المعتمد -في جزء كبير منه- على تدفق عوائد النفط، أكثرَ من السعي للاقتصاد المنتج والمستدام، لأنه يسمح بتوفير خدمات مجانية للأفراد (في مجالات الصحة والتعليم والوظائف والبنى التحتية والقروض وغيرها) في مقابل منح الولاء السياسي والامتثال لقرارات النظام الحاكم.
ويفضل بن سلمان هذا النموذج لأنه يجنبه خيار صناديق الاقتراع، ويؤسس به علاقة زبائنية بين الحاكم والمحكوم؛ فيستمد ولي الأمر شرعية الحكم عبر توزيع الريع على الأفراد.
لكن يبدو أن نظام الريع الاقتصادي يتعرض لصدمات هائلة بسبب تناقضات وإشكاليات “إصلاحات” بن سلمان، لأنه لا يمكن بحال التخلص من الاعتماد المفرط والخطير على منظومة الريع بدون إصلاحات سياسية جذرية، خاصة في ظل غياب منظومة حوكمة رشيدة تساعد على توجيه التنمية الاقتصادية والاستخدام الأمثل للموارد المتاحة، وضمان تقليل الفساد وتعزيز الشفافية.
إن “رؤية 2030” وبرنامج التحول الوطني -اللذين تم الإعلان عنهما في 2016- هما وجهان جديدان من وجوه محاولات الحكومات السعودية السابقة مواجهة معضلة اعتماد الاقتصاد السعودي والإنفاق الحكومي على إيرادات النفط، حيث تجاوزت لعقود نسبة الــ90%، ولذا تشكلت -على فترات مختلفة- حزمة من خطط خمسية ومشاريع مدن اقتصادية لم تؤتِ أكُلها، وفي بعض الحالات تعثرت تماماً لأسباب مختلفة منها تفشي الفساد.
الاختلاف الآن هو أن “رؤية 2030” تسعى لتنويع مصادر الدخل عبر خطوات جذرية وسياسات تقشفية كان من المستحيل التفكير فيها سابقاً، من بينها: فرض ضريبة القيمة المضافة، ومحاربة الفساد في علية القوم، ورفع الدعم عن بعض السلع، وتقليل الإنفاق على الأجور، وإلغاء البدلات والعلاوات عن موظفي الدولة.
وقد بدأ نظام آل سعود فعلا في تنفيذ هذه الخطوات خلال الأعوام الماضية، بدون إجراء إصلاحات سياسية ضرورية (من منطلق لا ضرائب بدون تمثيل ولا تمثيل بلا ضرائب) من شأنها نقله سلمياً من نموذج الريع.
لذلك اهتزت أركان النظام وتولد سخط عام بمجرد الإعلان عن هذه الخطوات، فتم العدول -بعد مرور أشهر قليلة- عن تنفيذ بعض القرارات التقشفية، التي كان من بينها إيقاف العلاوات والمكافآت؛ كما أُنشئ حساب المواطن لذوي الدخل المحدود للتخفيف من وطأة الضرائب على الطبقتين المتوسطة والفقيرة.
وهذا يؤكد أن النظام ما زال غير مستعد للتنازل بشكل كامل عن اقتصاد الريع، لأنه يوفر له مكاسب سياسية ويحمي وجوده.
أقرّت “رؤية 2030” نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية، لكن هذا النظام يقصر دور هذه الجهات على العمل الخيري، عوضاً عن مؤسسات المجتمع المدني التي من عادتها -في أي مجتمع- ممارسة أدوار رقابية مناصرة للفئات الأضعف.
وفي ظل كل هذه التحولات الاقتصادية المتسارعة؛ بدأت تطفو على السطح آثار التقشف والتغييرات الهيكلية الاقتصادية على فئة الطبقة المتوسطة والفقيرة، التي وثقها تقرير خبير الأمم المتحدة المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان، الذي نُشر عام 2017 وفصّل مشاهد البؤس في بلاد النفط، وذكر أن التطورات الاقتصادية فشلت في توفير شبكة الحماية الاجتماعية اللازمة لهذه الفئة المجتمعية.
كانت وما زالت مشكلة الفساد في النظام الاقتصادي السعودي أحد أهم معوقات التطور والإصلاح في المملكة، فحملات محاربة الفساد الانتقائية التي يقودها النظام الحاكم الحالي ما هي إلا خطوة لتدوير رؤوس الفساد من أيدي الحرس القديم إلى الحرس الجديد أو الأقلية الحاكمة الجديدة، في سبيل أن يُمنح الولاء المطلق لحاكم الأمر الواقع ولي العهد محمد بن سلمان.
يتمثل غياب الشفافية والفساد في امتناع النظام عن النشر علناً لمخصصات العائلة الحاكمة من إيرادات النفط، وغيرها من مخصصات “دفتر الشيكات” المرتبطة بتعزيز النفوذ السياسي.
أضف إلى ذلك أن أسرة بن سلمان تملك “شركة ثروات القابضة” للاستثمارات التي يرأسها الأمير تركي بن سلمان، وليس من المستبعد أن هذه الشركة حصلت على عقود استثمارية حكومية وخاصة، مستفيدة من شبكة المحسوبية وعلاقتها الأسرية بالملك وولي العهد. ويمثل هذا نمطاً أبعد ما يكون عن الإصلاح؛ فالنظام يقوم بخصخصة بعض القطاعات، لكنه يظل مالكاً لها عبر هذه الشركة وعبر النخبة الموالية له.
لذا سيظل الفساد في ظل غياب الحوكمة الرشيدة مستمراً حتى يسعى النظام لإيجاد آلية مستقلة تفرض رقابة على الشؤون المالية العامة؛ فمن غير المنطقي أن يقوم ولي العهد وجهازه البيروقراطي بمراقبة نفسه بنفسه، خاصةً بعد أن نصَّب نفسه رئيساً لهيئة مكافحة الفساد، ورئيساً لعشرات الهيئات الحكومية الرسمية.
فهذا مما يهدد خصائص الحوكمة الرشيدة في ظل علاقات القوة والنفوذ بين هذه المؤسسات، ناهيك عن أن السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية لا تزال تتداخل مع بعضها البعض، وتتمركز في يد رجل واحد يصر على تحرير نظامه من الرقابة والمحاسبة.
إن خطوات الليبرالية الجديدة وخصخصة أهم مؤسسات القطاع الحكومي تتم بشكل سلطوي، عوضاً عن إشراك أفراد المجتمع في النقاشات التشاورية؛ فالسير نحو خصخصة قطاعات حيوية كالتعليم والصحة في مجتمع حُرم من مؤسسات المجتمع المدني المستقلة يُعتبر تهديداً صريحاً لاحتياجات الطبقة المتوسطة، في ظل تفاوت الدخل بين الطبقات الاجتماعية، كما أن غياب نقابات عمالية تحمي الموظفين والعمال السعوديين في القطاع الخاص يجبر النظام على الانصياع لضغوط القطاع الخاص وقبول سياسات توظيف غير عادلة.
لذلك من الصعب التعويل على إشراك القطاع الخاص والاعتماد الكبير عليه في الاستثمار المباشر وتقديم الخدمات للمواطنين، كشكل من أشكال تنويع الدخل بدون بناء شبكة الأمان الاجتماعي ووجود مجموعات تحمي حقوق العمال، وإلا ستتحول هذه الخصخصة لتكون الوصفة الرئيسة للنزاعات وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي.
إن أحد أهم قرارات برنامج التحول الوطني يحث على تنمية الإيرادات غير النفطية، عبر صناديق الاستثمارات الدولية كالصناديق السيادية، أو الاستثمار في شركات عالمية على شكل صكوك وأسهم. وقد أشارت تقارير إلى أن مشتريات السعودية لسندات الخزانة الأميركية ارتفعت إلى 177 مليار دولار أميركي بحلول 2019.
وبذلك أصبحت المملكة من بين أكبر الدائنين الأجانب للولايات المتحدة، ناهيك عن أن الريال السعودي لا يزال غير مستقل مالياً لارتباطه بالدولار الأميركي.
وقد تعرضت هذه الخطوات للنقد من قبل أصوات مخضرمة كالخبير الاقتصادي الدكتور عبد العزيز الدخيل، الذي حذّر من الاستثمارات التي تقع تحت طائلة سيادة دول أخرى لأنها تعرض الاستثمارات لمخاطر جمّة.
كما انتقد بعض الاقتصاديين المحليين طرح أرامكو للاكتتاب حتى لا يعرّضها لمخاطر تقلبات السوق، وهي أهم مرافق الثروات الطبيعية في البلاد.
في الآونة الأخيرة؛ واجهت تحولات اقتصاد المملكة هزات كبرى خارجة عن سيطرة الدولة، بسبب تطورات فيروس كورونا التي أصابت سوق الأسهم بانخفاضات حادة، عدا عن “حرب النفط” التي تخوضها السعودية وروسيا، حيث هوت أسعار النفط إلى أقل من 30 دولارا. وهذا -بطبيعة الحال- سيؤثر على الإيرادات الحكومية والإنفاق العام.
بعد مرور خمس سنوات على إعلان “رؤية 2030” وبرنامج التحول الوطني؛ حذر صندوق النقد الدولي المملكة من نضوب ثرواتها المالية ودخولها نفق الإفلاس.
كما أشار صندوق البنك الدولي إلى أن أوقاتاً صعبة تلوح في الأفق السعودي، وهذا يستدعي إجراءات مهمة لحماية كرامة الإنسان وتأمين الحد الأدنى من الحياة الكريمة للمواطن.
وقد سبق أن انتقد الاقتصادي السعودي إحسان بوحليقة غياب رؤية واضحة لمكافحة الفقر ضمن بنود برنامج التحول الاقتصادي، وهذا يعني أن النظام ما زال يتعامل مع مشكلة الفقر كمشكلة خلقها الفقير عوضاً عن التعامل مع حلها كواجب أساسي على الدولة.
ولا شك أن إنهاء حالة اقتصاد الريع في ظل وطأة نضوب النفط، وتفكيك “عقلية الريع” التي تجذرت في علاقة الحاكم والمحكوم، والتحول إلى اقتصاد منتج؛ ضرورة لا مفر منها.
إن أداء اقتصاد المملكة كان ولا يزال يعتمد -بشكل رئيسي- على النفط؛ ولا ريب أن هذا النفط مورد ناضب وتكتنفه مخاطر جمة.
وبالتأكيد فإنه بدون الاعتراف بأهمية الإصلاح السياسي والقانوني وتطبيق مبادئ الحوكمة الرشيدة؛ سيستمر ارتفاع نسبة البطالة التي لا تزال تراوح مكانها منذ إعلان التحولات الاقتصادية، وقد تزداد ظاهرة الفقر؛ وهو ما سيخلق تهديداً للسلم الاجتماعي.