شكل التوازن القبلي أساس استقرار المملكة لعقود غير أن ولي العهد محمد بن سلمان أصبح بمثابة تهديد فعلي له بما يشكل خطرا غير مسبوق على مستقبل المملكة.
فقد أغضب بن سلمان أمراء الأسرة الحاكمة ورجال الأعمال، واعتقل الدعاة والعلماء لكن لم يكتف بذلك، بل أنه يهدد بالإطاحة بالتوازن القبلي ويعيد صياغة العقد الاجتماعي بين الحاكم آل سعود وقبائل المملكة.
ولدى القبائل في المملكة الآن الكثير من المشاكل مع أسرة آل سعود، وهي مشاكل يعود بعضها إلى ما قبل تأسيس الدولة السعودية الحديثة.
ومشاكل أخرى متجددة، بتعاقب حكام آل سعود على مقاليد البلاد منذ أكثر من قرن من الزمن. فيما اليوم تتغير الطبيعة البيولوجية للمملكة بوجود محمد بن سلمان.
إذ يعمد ولي العهد إلى خلخلة التوازن القبلي وضرب الأجنحة داخل الأسرة الحاكمة وتقويض المؤسسة الدينية، ويغير قواعد التقديمات الشهرية، الشَّرْهات، المعتمد منذ بداية تأسيس الدولة السعودية.
كما أنه يغير الخريطة القبلية داخل الحرس الملكي، ويُغضب قبائل أخرى بمطاردة أبنائها بالاعتقال والمصادرة.
يعيد بن سلمان الطموح صياغة العلاقة التاريخية بين أسرته الحاكمة، وبين قبائل نجد والحجاز، على ضوء كل ما تغير من موازين لعبة القوى عبر سنوات القرن الذي بدأ بتأسيس المملكة.
إذ أن تغييرات غير مسبوقة لحقت بالمشهد منذ وصول محمد بن سلمان إلى منصب ولي العهد، ومستقبل التحالف بين “القبيلة” الحاكمة، وباقي القبائل.
وتمثل الاعتقالات المتكررة التي يشنّها جهاز أمن الدولة التابع لولي العهد السعودي ضدّ شيوخ القبائل في المملكة، دلالة على سياسة جديدة للتعامل مع القبائل.
إنها القبائل نفسها التي كان لها الدور الأبرز في حملة توحيد البلاد مطلع القرن الماضي، واستهدافها قد يؤدي إلى اختلال سياسي جديد في البلاد التي تعاني من صعوبات سياسية وعسكرية واقتصادية.
وطالت الاعتقالات شيوخ أكبر القبائل السعودية وهي: مطير، عتيبة، شمر وعنزة.
وتعود أسباب الاعتقالات الموجّهة ضدّ شيوخ القبائل هذه الفترة إلى عاملين رئيسيين:
الأول هو توجّس ولي العهد من ولاء هؤلاء الشيوخ لأمراء آخرين من آل سعود، خصوصاً من كان يغدق الأموال والمناصب عليهم، وعلى قراهم التي يحكمونها.
العامل الثاني محاولة بعض الزعامات القبلية صنع زعامة شعبية. خاصة تلك المنتمية لعائلات لها جذور في التمرّد القبلي القديم، أو من عائلات منافسة للأسرة الحاكمة.
ولم تقتصر الإجراءات المشدّدة ضدّ القبائل في السعودية على اعتقال بعض الشيوخ المتمردين وذوي الصوت العالي فحسب، بل امتدت إلى قطع المنح والعطايا عن جميع شيوخ القبائل بحجة العجز الاقتصادي.
كما أنه منذ وصول محمد بن سلمان لولاية العهد توقّفت المنح والعطايا التي كان الديوان الملكي يمنحها بشكل سنوي لأمراء وشيوخ القبائل، والتي تسمى محلياً “الشَّرْهات”، وهو ما زاد من حدّة الحنق على ولي العهد بين شيوخ القبائل الذين يرون أنفسهم صمام أمن للبلاد، ووقوداً لحروب التأسيس الأولى.
هم يقولون إنّ هذه المنح لا تذهب إلى جيوبهم، بل تذهب إلى فقراء القبائل في القرى الريفية البعيدة التي تعاني من الإهمال ونقص الخدمات ووعورة الطريق، ما يعني أنّ قطع المنح سيتسبّب بأزمة كبيرة لمجتمعات كاملة داخل البلاد.
وطالما كان تحصين القبائل النجدية المتحالفة مع آل سعود إزاء أي شكل من أشكال التمرّد مكفول بالامتيازات المرصودة الثابتة والمستمرة لها.
وحتى في المجال الديني، فإن مشايخ نجد هم من يسيطرون على أكثر من 100 ألف مسجد ومُصلّى في أرجاء المملكة، ويمسكون بجهاز التوجيه الديني، خطابة وتعليماً. وهم في المدرسة، والمسجد، والجامعة، والمخيمات الصيفية، والمراكز الدعوية، والبعثات التبليغية.
لا يخرج الدعاة من ذوي الصوت المرتفع، والصيت الواسع إلا من المجتمع النجدي.
ويمكن النظر إلى حملة بن سلمان ضد الأمراء والوزراء ووكلائهم تحت طائلة الحرب على الفساد، على أنها بمثابة معركة داخل المركز، ولا صلة لها بالأطراف، التي قد تكون مسرورة، وهي بالفعل كذلك، لأنها حرب بين أهل السلطة أنفسهم.
ومنذ وصول محمد بن سلمان إلى مقاليد الحكم حرص على تنصيب شخصيات ورموز في داخل القبيلة الواحدة، لضمان الولاء والطاعة.
يسعى بن سلمان إلى إحداث اختراق سياسي واجتماعي داخل قبائل المملكة، وبخاصة القبائل الجنوبية، لضمان التبعية السياسية عبر واجهات قبلية.
ويبدو أن حرص بن سلمان على زيادة الاختراقات داخل القبائل في السعودية تأتي من إدراكه الكبير بأنّها تشكل قوة اجتماعية في مواجهة سطوة السلطة، خاصة أنّ سياساته الأخيرة لا تلقى الرواج الكبير داخل المجتمع السعودي، الأمر الذي جعله يدفع بشخصيات محسوبة على توجهه عبر شراء ولاءات رموز القبائل.