حطم محمد بن سلمان الموروث السياسي المألوف للمملكة الذي حكم موازين العلاقات العربية الداخلية من جهة، والعلاقات العربية/الإسرائيلية من جهة أخرى.
ومنذ تولي د بن سلمان ولاية العهد انتقلت سياستها نقلة خطيرة من الألف إلى الياء، وبدا في الأفق ما يشير إلى تبلور وقائع سياسية ذات طبيعة مغامرة لا تمس الواقع السعودي الداخلي فحسب، بقدر ما تمس المشهد العام في المنطقة العربية برمتها.
وبسبب ذلك باتت المملكة أمام مفترق طرق خطير بسبب نهجها السياسي الجديد الذي يتماهى مع المخططات الأميركية/الإسرائيلية، مما ينذر بمخاطر كبرى تهدد المملكة في المرحلة القادمة.
لا يُبحر بن سلمان عكس التيار منفردا، بل يتحالف معه بعضُ حكام الخليج الذين يحملون ذات الفكر، ويُعتقد أنه قادر على إعادة صياغة ملامح وتفاصيل المشهد العام بالمنطقة العربية عبر السير في ركاب الإدارة الأميركية وإنفاذ أجندتها الخاصة، لتحويل مجرى الواقع العربي الراهن إلى اتجاه جديد ومشهد مغاير تماما للقائم.
والرؤية التي يحملها بن سلمان ليست وليدة اللحظة السياسية الراهنة، بل هي رؤية قديمة حملها بعض حكام الخليج على وجه الخصوص، وترتكز على تأمين الواقع السعودي خصوصا والخليجي عموما من الشرور الأميركية، ونفض اليد من القضية الفلسطينية التي يرون فيها عبئا على الوضع العربي برمته، والدفع باتجاه تسوية هزيلة تفتح باب التطبيع الشامل مع إسرائيل لتكرّس دولة الاحتلال جزءا أساسيا في نسيج المنطقة.
لكن هذه الرؤية استعادت زخمها من جديد عقب تولي ابن سلمان ولاية العهد في السعودية، واستحواذه الكامل على صناعة القرار السياسي بالمملكة، في ظل دعم أميركي وإسرائيلي غير مسبوق.
ولعل في الكتاب الجديد الذي أصدره الكاتب الأميركي مايكل وولف (نار وغضب)، وتحدث فيه عن دور الرئيس دونالد ترمب في هندسة الانقلاب الداخلي الأبيض بالسعودية بتصعيد ابن سلمان إلى ولاية العهد؛ ما يشير بجلاء لخصوصية العلاقة التي تربطه بترمب وإدارته، ومدى انتظام ابن سلمان ضمن المنظومة السياسية الجديدة الهادفة لإعادة صياغة المشهد السياسي بالمنطقة.
اعتمد بن سلمان سياسة الهجوم المباشر والضرب تحت الحزام لتصفية أو إنهاك الخصوم والقوى التي تشكّل تهديدا لأهدافه داخليا وخارجيا، ومن بينها إجراءاته ضد الأمراء والعلماء ومراكز القوى. وتشهد العلاقة مع قطر ولبنان وحركة حماس والسلطة الفلسطينية على تجليات السياسة الجديدة التي قادها مؤخرا في المحيط العربي.
يتحرك بن سلمان دون امتلاك خبرة الساسة ولا حكمة الكبار، أو فهم حقائق التاريخ وخلفيات الصراع مع إسرائيل، ودون دراسة واقع العلاقات السياسية الإقليمية والدولية، والأطماع الأميركية والاستعمارية التاريخية في المنطقة العربية، أو حتى التنبّه لحقيقة الدوافع الدينية المتطرفة التي تحرّك طواقم الإدارة الأميركية في سياساتها المعادية لقضايا الأمة وفي مقدمتها قضية فلسطين.
فيما مضى، حافظت المملكة على مواقف سياسية تقليدية من القضية الفلسطينية، وكانت المبادرة العربية للتسوية أقصى ما ذهبت إليه السعودية من مواقف سياسية رسمية.
لكن المملكة تحت حكم بن سلمان اليوم قلبت كل الموازين، وتساوقت تماما مع المخطط الأميركي/الإسرائيلي لتصفية القضية الفلسطينية المعروف باسم “صفقة القرن”، والذي يُفرغ القضية من مضامينها الأساسية.
يحاول بن سلمان وحلفاؤه في المنطقة مسابقة الزمن لاستثمار الأوضاع العربية الهشة، وفرض مخططهم السياسي على الفلسطينيين الذي يجري بتواطؤ كامل مع الإدارة الأميركية، إذ يرى أن الظروف الراهنة تبدو أكثر مثالية لإنجاح المخطط، وأن الفرصة السانحة حاليا قد لا تتكرر مستقبلا.
ولعل في علوّ نبرته المتوشحة بالتهديد والإملاء إبان لقاءيْه الأخيرين مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لحمله على قبول الرؤية الأميركية لحل الصراع، وتعطيل السعودية لأي قرارات عربية حقيقية لنصرة القدس ومواجهة قرار ترمب بشأن القدس؛ ما يشير إلى الدينامية المتصاعدة لسياسة ابن سلمان وحراكه النشط في المنطقة.
من أهم الدوافع -التي أملت على بن سلمان ورفاقه الالتحاق بركب السياسة الأميركية- الرغبةُ الجامحة في درء الأخطار الأميركية التي تلخصت بوضوح في لغة ترمب إبان حملته الانتخابية، إذ اتهم السعودية بتمويل أحداث الإرهاب الدولي ومن بينها أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، وتوعدها بالعقاب الرادع عقب انتهاء البازار الانتخابي.
فقد جاهر ترمب والدوائر المقربة منه بنوايا سافرة تجاه السعودية، وبدا أن ثمة حملة أميركية شرسة تستهدف معاقبة المملكة بشكل كامل إذا فاز ترمب بمنصب الرئاسة، مما اضطر ابن سلمان ومقربيه إلى ابتداع صيغة الاستسلام للتهديدات الأميركية بدلا من التصدي لها.
وبالعودة إلى الوراء، يدرك الجميع أن السياسة السعودية كانت مسرحا خصبا لردات الفعل الإقليمية والدولية، وأنها كانت تنساق لمتطلبات الظروف السياسية الدولية لا غير.
ففي حرب الخليج الثانية كانت المملكة في وضع الاستجابة للإملاءات الأميركية، وتم استخدامها أساسا لأغراض التمويل المالي للحرب وفتح الأرض والأجواء للجيوش الغازية، وفي حرب احتلال العراق 2003 استخدمت الأراضي والأجواء السعودية وسواها لهذا الغرض أيضا.
ولم يُعهد من المملكة أساسا -رغم مركزها الاقتصادي وثقلها الديني- أنها كانت يوما صانعة للحدث السياسي الإقليمي، أو صاحبة تأثير في الموقف السياسي الدولي.
ولكونها تدرك أن أي حركة في إطار التأثير السياسي لا بد أن تتوافق مع الرغبات الأميركية؛ فإن السعودية اليوم تحت الحكم العملي لابن سلمان تحرص تماما على تنسيق سياساتها مع المواقف الأميركية ضمن رؤية تحالفية تستهدف تحقيق مصالح سياسية مشتركة في المنطقة العربية.
إن مفاعيل سياسة المملكة اليوم تبحث عن دور جديد وكبير في المنطقة، وترمي عبره للتدثّر بثوب الزعامة السياسية فيها والولوج إلى دائرة الصناعة المباشرة للأحداث على حساب مصر ودورها الإقليمي، في ظل ضعف فعالية التأثير المصري على الساحة الإقليمية حاليا.
فوق ذلك، يأمل بن سلمان أن تفتح آفاق التطبيع الشامل مع إسرائيل -وفق سياسته الجديدة- بوابات الازدهار الاقتصادي لبلاده، في ظل مؤشرات العجز والركود الاقتصادي الراهنة.
من الواضح أن النهج السياسي الجديد لابن سلمان محكوم عليه بالفشل المحتم، لكونه يرتكز على صناعة وتفجير الأزمات في المنطقة وتعميق التناقضات فيها، ويتأسس على مبدأ التبعية للإدارة الأميركية في بناء شرق أوسط جديد عجزت هذه الإدارة عن تحقيقه سابقا.
ولذا، فإن لفظ المغامرة -بل المقامرة- هو أدق وصف للنهج السعودي الجديد لأنه يبني دون أساسات، ولا يحسب حسابا لواقع المآلات المنتظرة والتداعيات المتوقعة، والتي لن تكون إلا بالغة السلبية والتعقيد بكل المقاييس.
السياسة السعودية اليوم لا تقود المملكة إلى استقرار سياسي يؤمّنها من الضغوط الأميركية، ولا يضخّ فيها موجات الانتعاش الاقتصادي كما يأمل ابن سلمان، فإدارة ترمب-التي تجري دماء الغدر والخيانة في عروقها- لن تكون أمينة على من تراهم محض أدوات سياسية بين أيديها.
كما أن المليارات التي جباها بن سلمان من الأمراء المعتقلين لن يكون لها إلا تأثير آني فحسب، في ظل مؤشرات العجز الاقتصادي التي أصابت مفاصل المملكة.
ولن تتمكن المملكة من درء التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية الماثلة إلا بمراجعة نهجها السياسي الراهن، وكبح سياسة الاسترضاء للإدارة الأميركية بما لا يعود على المملكة بالنفع في حقيقة الأمر بشيء، بالإضافة إلى وقف تدخلها العسكري الموغل في هدر المال على المستوى الخارجي، والتوقف عن عقد صفقات السلاح الكبرى المستنزفة لخزينة البلاد.
في الحالة الراهنة؛ فإن بن سلمان ألبس السعودية لبوسا أكبر من حجمها بكثير، وأقحمها في أدوار كبرى لا تقوى على احتمالها واستيعاب تداعياتها طويلا.
لقد أسهمت المملكة -بتدخلها العسكري باليمن- في تدمير البلاد، وقادت حلف محاصرة قطر لإخضاعها، وعملت في لبنان على تغذية التناقضات الطائفية، واتهمت قوى المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، وها هي تحاول بقوة تصفية القضية الفلسطينية بإجبار السلطة على قبول “صفقة القرن” والتخلي عن الحقوق الفلسطينية.
وفوق ذلك، فإن الدعم السعودي الرسمي لبعض التنظيمات الإسلامية ذات الفكر المتطرف (من بينها بعض مجموعات تنظيم الدولة الإسلامية)، أورثها عداء العديد من التنظيمات المتطرفة الأخرى المدعومة من أطراف عربية ودولية أخرى.
وحين تضاف ذلك هشاشة المجتمع السعودي من الداخل بسبب السلوك المغامر والسياسات الاستحواذية لابن سلمان حاليا، فإن الأمر يغدو عندئذ أكثر خطورة.
ومما يبدو، فإن خطر الجماعات الحوثية اليمنية يبدو أقرب إلى الواقع السعودي اليوم، إذ إن تحليل مواقف الحوثيين يؤشر إلى نيتهم الجامحة في الانتقام، فهم لا يُخفون رغبتهم في نقل المعركة إلى داخل السعودية، في إطار حرب عصابات تصعب مواجهتها.
ومن هنا يمكن القول إن السعودية تواجه خطر التفسخ والتقسيم التدريجي خلال المرحلة القادمة، وإنها قد تمر بأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية يصعب اجتيازها بالقيادات الحالية التي تقودها نحو وضعية قاسية على البلاد داخليا وخارجيا، وسيُعيد المملكة عشرات السنين إلى الوراء.