آل سعود أفسدوا المؤسسة الدينية وأفرغوها من مضمونها
أفسد آل سعود المؤسسة الدينية في المملكة وأفرغوها من مضمونها لتصبح مهتمة فقط بالتماهي مع السلطة والتحالف معها لاقتسام النفوذ والثروة.
ولا شك أن مهمة المؤسسة الدينية في الدول الإسلامية عظيمة وأساسية في الاستقرار الاجتماعي، ومن ثمّ الاستقرار السياسي والاقتصادي، وقيمة هذه المؤسسة تزداد في أرض الحرمين ومهد الإسلام.
لكن آل سعود كان لهم موقف مغاير عندما حولوا المؤسسة الدينية إلى ومن يمثلوها إلى الاهتمام بالتماهي مع السلطة والتحالف معها لاقتسام النفوذ والثروة، وبالتالي جعلوها أداة طيعة بيد السلطة، بل ومحل تندُّر وسخرية، ليكون مصيرها في النهاية الهامش وحوافّ الفعل بعد انتفاء الجدوى السياسية.
يعيش رموز المؤسسة الدينية في المملكة مرحلة الغروب والوهن؛ فمنذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، بدأ آل سعود في التخلص من هؤلاء الرموز والتضحية بها وتقديمها قربانا لاستمرار العلاقة مع الولايات المتحدة، التي وجهت أصابع الاتهام إلى الأيديولوجيا الوهابية بوصفها المحرك الرئيس للعداء للغرب.
فقد تعرّض الرئيس العام لشؤون الحرمين لوابل من الأسئلة المحرجة تتعلق بمواقفه الشخصية وبسياسات السعودية، خاصة فيما يتعلق بحربها على اليمن وحصارها لقطر.
والمفارقة -التي استفزت صاحب الأسئلة وهو ناشط حقوقي جزائري- هي أن السديس جاء إلى سويسرا ليحاضر في الناس عن “الأمن وسبُل تحقيقه والمحافظة عليه”.
هذا الناشط لم يتوان -وبنبرة استنكار- في أن يسأل السديس عن كيف يمكن أن تقود السعودية وأميركا العالم نحو السلام؟ وهو ما قال به السديس على هامش مؤتمر نظمته رابطة العالم الإسلامي في نيويورك (سبتمبر/أيلول 2017).
وواصل الرجل مخاطبة السديس “إمام الحرم” مستنكرا الأدوار التي تقوم بها السعودية، بما في ذلك دعم الانقلاب في كل من مصر وتركيا. وقال له إنه لا يحق له أن يقدم المواعظ بينما هو -أي السديس- يُفتي بقتل المسلمين في اليمن.
لقد لخص لنا ابن خلدون في مقدمته الشهيرة أسباب تحالف “آيات الله” مع السلطان في كل زمان ومكان، حيث قال: “العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين على الجملة؛ والسبب في ذلك أنهم -لخُلُق التوحش الذي فيهم- أصعبُ الأمم انقياداً بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة، فقلّما تجتمع أهواؤهم. فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خُلُق الكِبْر والمنافسة منهم فسهُل انقيادُهم واجتماعُهم”.
لعل الأمثلة على السلطة التي حازتها المؤسسة الدينية السعودية كثيرة، ومن ذلك مثلا أن الملك عبد العزيز (مؤسس الدولة السعودية الحالية) سعى لموافقة شرعية من أولئك الآيات عندما أراد ادخال تقنية اللاسلكي، وحين أفتوا بتحريم استخدام المذياع والتلغراف قام الملك عبد العزيز بمنع استخدامه ربما لفترة من الزمن.
في حرب الخليج عام 1990؛ قامت لجنة من المؤسسة الدينية السعودية -يترأسها المفتي عبد العزيز بن باز رحمه الله- بإصدار فتوى تجيز السماح بنشر القوات الأميركية على الأراضي السعودية، أثناء تلك الحرب؛ وذلك لإرغام القوات العراقية على الخروج من الكويت.
كانت تلك الفتوى بمثابة الغطاء الشرعي الضروري لتمرير قرار التحالف مع القوات الأميركية، الذي كان يمكن النظر إليه بوصفه تفريطاً في صلب مقومات العقيدة الإسلامية.
واليوم، يعيش رموز المؤسسة الدينية السعودية مرحلة الغروب والوهن؛ فمنذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، بدأت مؤسسة الحكم السعودية في التخلص من مؤسسة “الآيات”، والتضحية بها وتقديمها قربانا لاستمرار العلاقة مع الولايات المتحدة، التي وجهت أصابع الاتهام إلى الأيديولوجيا الوهابية ومؤسسة “الآيات” السعوديين، بوصفها المحرك الرئيس للعداء للغرب.
ولي العهد محمد بن سلمان أشار -قبل عدة شهور- إلى أن بلاده عانت -خلال العقود الماضية- من سيطرة ما وصفها بـ”المذاهب الصارمة التي حكمت المجتمع”، مؤكدا عزمه على محاربة هذه الأفكار والقضاء عليها فوراً.
إن ما يؤخذ على رموز المؤسسة الدينية السعودية هو اندماجهم بل واستسلامهم لتوجهات آل سعود والتي يمكن النظر إليها وفهمها في سياق ما صرح به السفير الإماراتي بواشنطن يوسف العتيبة، الذي قال إن “ما تريده الإمارات والسعودية والأردن ومصر والبحرين هو حكومات علمانية”، أي بدون سلطة ونفوذ “آيات الله”.
لم يستطع رموز المؤسسة الدينية السعودية استيعاب أن موقفهم الداعم للحكم السعودي، وبالتالي للإستراتيجية الأميركية في المنطقة؛ تطور بشكل نوعي ليتمظهر في الدعم الأميركي للمليشيات الشيعية في العراق، ثمّ في ظهور نسخة مطورة من تنظيم القاعدة ممثلة في تنظيم الدولة الإسلامية، الذي يظهر صورة الإسلام التي يريدها الغرب، الأمر الذي يوفر مسوغات ومبررات أخلاقية لضربه”
ولا بد هنا من الإشارة إلى أن مصطلح الإسلام السياسي –الذي أطلقه الغرب واستخدمه- هو مصطلح سياسي وإعلامي، لتوصيف حركات تغيير سياسية تؤمن بالإسلام باعتباره “نظاما سياسيا للحكم”.
لكنه تجنب وصف التحالف الديني السلطوي في السعودية بـ”الإسلام السياسي”، حيث يتبادر للمرء -لأول وهلة- أن المقصود بالإسلام السياسي هو استخدام الدين في الحكم لأغراض سياسية بحتة، وهذا بالضبط ما حدث في السعودية؛ وفق توصيف ابن خلدون.
لكن الغرب تعمّد أن يُلصق هذا التوصيف المفاهيمي بمن ينظر إلى الإسلام باعتباره نظاما سياسيا واجتماعيا وقانونيا واقتصاديا، يصلح لبناء مؤسسات الدولة.
وهنا يكمن الخطر عند الغرب لأن الإطار الفكري السياسي للحركات الإسلامية في العالم يقوم على أدبيات وتجارب تراكمية، أهم ما فيها أن الإسلام دين الوسطية وليس مجرد مجموعة شعائر وحركات ظاهرة مجوّدة بدون أي بُعد معنوي. ويطرب الغرب للإسلام السياسي في النموذج السعودي لأنه يعتقل التدين ضمن الإطار الفقهي الشعائري.
لقد قدمت المؤسسة الدينية السعودية خدمة عظيمة في حربيْ الخليج مما أدى في النهاية لإسقاط النظام العراقي عام 2003؛ الأمر الذي شكل أكبر مفاصل التحولات التي تشهدها المنطقة اليوم، والتي مهدت للفوضى الخلاقة.
ولم يستطع رموز المؤسسة الدينية السعودية استيعاب أن موقفهم الداعم للحكم السعودي، وبالتالي للإستراتيجية الأميركية في المنطقة؛ تطور بشكل نوعي ليتمظهر في الدعم الأميركي للمليشيات الشيعية في العراق، ثمّ في ظهور نسخة مطورة من تنظيم القاعدة ممثلة في تنظيم الدولة الإسلامية، الذي يظهر صورة الإسلام التي يريدها الغرب، الأمر الذي يوفر مسوغات ومبررات أخلاقية لضربه.
ومن السخرية بمكان أن يدحض كل ذلك عقيدتهم السنية القائمة على مواجهة المد الشيعي في المنطقة. وقد استمر توظيف المؤسسة الدينية السعودية واستخدامها ضد تركيا، التي تحمل مشروعا سُنيا حضاريا يعتبر العرب شركاء في المنطقة لا خصوما؛ وبالتالي فإن هذا التوظيف يفوّت الفرصة على تأسيس التاريخ المشترك لمستقبل تعاون قد يرقى إلى مستوى تجربة الاتحاد الأوروبي.