لا يعدو النظام القضائي داخل المملكة سوى هيئة شكلية تنفذ قانون نظام آل سعود وتتعامل مع كل معارضيها بمبدأ القوة التي تؤمن بها العصبة أو القبيلة، فتنفي وتقتل وتذبح وتعدم مخالفيها، وكأن العز سيبقى لها أبد الدهر.
والمشكلة الكبرى في قضاء المملكة أنه غير مستقل، وهذه هي الأزمة التي بسببها تُلقى الأحكام بطريقة عشوائية على معتقلي الرأي، بحيث تتم صياغة تهم فضفاضة لهم ويتم الحكم عليهم بالسجن حتى بلا محاكمة علنية.
وقد عرفت المملكة في الفترة من عام 1970 حتى 1975 إنشاء نظام إداري حديث للمحاكم وفقا لقانون القضاء المعتمد في عام 1975.
وفقا لذلك القانون الذي شكّل أساس السلطة القضائية في المملكة، والذي يتكوّن من نظام المحاكم السعودي الحالي، ويشمل مجلسا قضائيا أعلى، ومحاكم الاستئناف، والمحاكم الابتدائية (المحاكم العامة والمحاكم الجزئية).
كما أن لدى المملكة هيئة قضائية إدارية تُعرف باسم “مجلس المظالم”، وهي بمنزلة هيئة موازية لنظام المحاكم تتبع للملك مباشرة، ويتم تنفيذ الوظيفة القضائية للمجلس من خلال دوائر قضائية تنشأ من دوائر محاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية.
وفي حين ظل القضاء الشرعي تحت سلطة القضاة الذين يعيّنهم المجلس الأعلى للقضاء، والذي يقوم الملك بدوره بتعيين أعضائه، فقد وقعت سلطة مجلس المظالم تحت ظل الملك مباشرة، ليستكمل الملك، أيًّا كان هو، السيطرة على السلطة القضائية في المملكة سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
وهو المجلس ذاته الذي يعود لـ “مجلس المظالم” الذي تأسس عام 1954 داخل نظام القضاء الإداري الذي أنشأه الملك عبد العزيز آل سعود تحت اسم “ديوان المظالم”، وهو نظام قضائي يستلهم وظيفته من العصر الإسلامي الوسيط، ومهمته الفصل في المظالم والنزاعات التي تنشأ بين الأطراف الحكومية والتجارية وبين المواطنين، حيث جعل الملك عبد العزيز نفسه متاحا لعدة ساعات يوميا لمقابلة أي فرد يحضر إلى الديوان ومعه مَظلمة.
ثم وضع الملك بجوار قصره صندوقا، هو وحده من يمتلك مفتاحه، وحث كل سكان المملكة على أن يضعوا فيه أي شكاوى أو مظالم لديهم ضد أي مسؤول حكومي، قائلا: “الشخص الذي يمتنع عن الشكوى من أي ظلم يعاني منه على يد مسؤول، سواء أكان كبيرا أم منخفضا أو أي شخص آخر، ليس له من يلوم إلا نفسه”.
إلا أنه في الوقت نفسه، نص إعلان الملك على وجوب تقليص أي شكوى في صياغتها النهائية إلى الحد الأدنى وتوقيعها بصدق، وأن أي شكاوى كاذبة ستتم محاكمة ومعاقبة صاحبها، في حين سيتم تجاهل أي شكاوى مجهولة المصدر أو أُسيء استخدامها.
ومع توسع المملكة وتعقّد نظام إدارتها، وزيادة عدد النزاعات مع تنامي التجارة، استدعى الأمر تطور “ديوان المظالم” إلى “مجلس المظالم” الذي أصبح بمنزلة “مجلس الدولة” أو المحكمة الإدارية العليا في بعض البلاد الأخرى، ثم أصبح “ديوان المظالم” قسما من مجلس الوزراء بموجب قانون مجلس الوزراء.
ومع بلوغ عام 1982، جاء قانون جديد ليجعل “مجلس المظالم” هيئة قضائية إدارية مستقلة، تقف بالتوازي مع المحاكم الشرعية، بينما ترتبط مباشرة بالملك وتقع خارج وزارة العدل. ويتكوّن مجلس المظالم من رئيس، ونائب واحد أو أكثر للرئيس، وعدد من نواب الرئيس، وأعضاء متخصصين في الشريعة والقانون.
وعلى الرغم من أن المادة 1 من قانون إنشاء المجلس تنص على أن المجلس هو مجلس قضائي إداري مستقل، فإنه مخوّل له البت في القضايا والنزاعات التي لا تكون الإدارة طرفا فيها، ويحق له الفصل مؤقتا في المنازعات الجنائية والتجارية، ولديه سلطة إنفاذ الأحكام الأجنبية وقرارات التحكيم الأجنبية.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن مجلس الوزراء مفوّض بموجب المادة 8 من قانون مجلس المظالم، المعتمد في عام 1982، لإضافة دائرة قضائية جديدة إلى المجلس.
ومع ذلك، قد لا يستمع مجلس التظلمات إلى الطلبات المتعلقة بالإجراءات السيادية، أو الاعتراضات المقدمة من الأفراد ضد الأحكام أو القرارات الصادرة عن المحاكم أو الهيئات القانونية التي تدخل في اختصاصها، أي إن له سلطة نافذة على المؤسسة القضائية نفسها.
وتمارس تلك الهيئة القضائية صلاحياتها من خلال دوائر يتم تحديد عددها وتكوينها وأعضائها واختصاصها بقرار من رئيس المجلس، و يتكوّن التسلسل الهرمي القضائي للمجلس من عدد من الدوائر المتخصصة التي لها اختصاص محدد يضعه رئيس المجلس بتوجيهات من الملك مباشرة، فيتكوّن المستوى الأول من الهيئة عبر مجلس دوائر الاستئناف العليا، ثم دوائر الاستئناف، ثم دوائر الدرجة الأولى.
الآن، لدى المملكة نظام قضائي مزدوج يتألف من نظام المحاكم الشرعية، الذي يقوم على القاضي الشرعي والأحكام المستمدة من الشريعة الإسلامية حسب تقدير القاضي، وقضاء إداري مستقل يُعرف باسم مجلس المظالم أو “ديوان المظالم”، بالإضافة إلى هرم الهيئات القضائية، ابتداء من المجلس الأعلى للقضاء، ثم محاكم الاستئناف، ثم المحاكم الابتدائية، وتحت تلك الهيئات هناك العديد من اللجان الإدارية التي لها اختصاص النظر في بعض القضايا المحددة.
علاوة على ذلك، يسمح قانون القضاء بإنشاء محاكم متخصصة من خلال “الأمر الملكي” بناء على توصية من مجلس القضاء الأعلى.
وتتمتع محاكم الشريعة بالاختصاص القضائي في جميع المنازعات والجرائم باستثناء تلك المعفية من اختصاصها بموجب القانون، فتنظر المحاكم الشرعية في القضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية وشؤون الأسرة والنزاعات المدنية ومعظم القضايا الجنائية.
ومع ذلك، فقد منحت القوانين واللوائح المختلفة الولاية القضائية على الدعاوى والجرائم المختلفة أمام مجلس المظالم أو اللجان الإدارية.
ويعني ذلك أن الملك وولي عهده، والمجلس الأعلى للقضاء ورئيس ديوان المظالم التابعين للملك، هم من يحددون دوائر النظر والاختصاص في أي نزاعات قضائية. وبالتالي يبدو أن هناك فوضى قضائية داخل المملكة التي تدّعي أنها تحكم بالشريعة الإسلامية وتقوم على العدل!
ظاهريا، تقوم المؤسسة القضائية في المملكة على قواعد الشريعة الإسلامية وفقا لتفسير المذهب الفقهي الحنبلي، وعليه يلتزم القضاة السعوديون بالأحكام الفقهية “الحنبلية”، لكنهم أيضا يتمتعون بسلطة تمنحهم حق تقدير القضية والاجتهاد في الحكم عليها وفقا لتفسير كل قاضٍ، مقيدين فقط بضميرهم الخاص في تحديد حكم الشريعة المناسب للقضية، حيث لا يسترشد القاضي السعودي فقط بالمذهب الفقهي، بل كذلك من خلال فهمه للنصوص الواردة في القرآن والسنة، وهو يعتقد أن حكمه يأتي مباشرة من هذه النصوص، فالقاضي السعودي لا يتمتع فقط بسلطة قضائية، بل بسلطة أخلاقية وروحية أيضا.
وبذلك، تكون القرارات القضائية للقضاة السعوديين قانونا ساريا ولا يمكن نقضها ما لم تتعارض مع معنى واضح للقرآن أو السنة، أو تخالف التفسيرات أو المبادئ التي تطبقها المحاكم العليا.
كما يستكمل القضاة أحكامهم بالقوانين التي وضعتها الحكومة السعودية، خاصة في مجال الجريمة والعقاب والشؤون الاقتصادية، أي إن الملك والسلطات السعودية بجانب المجلس الأعلى للقضاء هم من يضعون التفسيرات الملائمة للشريعة والتي يستنبط منها القضاة أحكامهم.
كما تقع جميع المحاكم الشرعية تحت إدارة وزارة العدل، وهي التي تضع المعايير القانونية الصارمة لسير عملية خروج الأحكام القضائية.
ورغم أن استقلال القضاء أمر منصوص عليه في قانون السلطة القضائية، فإنه بموجب المادة 71 من قانون السلطة القضائية، يشرف وزير العدل التابع للسلطة التنفيذية على جميع المحاكم والقضاة، بل إن قرار محكمة النقض يصبح نهائيا فقط بناء على موافقة وزير العدل، الذي قد يحيل القضية إلى المحكمة لإعادة النظر فيها إذا كان الحكم يختلف مع قراره.
وإذا حافظت المحكمة على قرارها الأول فيجب في تلك الحالة إحالة الأمر إلى مجلس القضاء الأعلى، والذي سيكون له القول الفصل في القضية، فالمجلس الأعلى للقضاء هو المسؤول عن تفسير الشريعة ومراجعة جميع المحاكم والأحكام التي يؤدي جزء كبير منها إلى الإعدام أو الجلد أو السجن المشدد.
غير أن المجلس الأعلى للقضاء، والذي يعيّنه الملك مباشرة، له السلطة الوحيدة في تحديد تكوين محاكم الدرجة الأولى وتعيين مقاعدها وصلاحياتها، كذلك أصبح المجلس أيضا السلطة الوحيدة في تسمية رؤساء محاكم الاستئناف ونوابهم، ورؤساء محاكم الدرجة الأولى ونوابهم.
كما أصبح المجلس هو السلطة الوحيدة في تقرير متى يمكن لمحاكم الدرجة الأولى أن تعقد محاكمها، أو جلسات الاستماع التي تقع خارج نطاق اختصاصها، وهو كذلك المسؤول عن معايير تعيين القضاة وترقيتهم وتوزيعهم على الدوائر بتوصيات من وزير العدل.
وخلال ولاية الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، أعلن الملك عن تحديث وإصلاح النظام القضائي في المملكة، ففي 2 أبريل/نيسان 2005، صدر أمر ملكي وافق على تعديلات مبدئية لتنظيم النظام القضائي، بما في ذلك إنشاء محاكم متخصصة في المملكة العربية السعودية لأول مرة.
ووفقا للأمر الملكي لعام 2005، سيكون للمحاكم المتخصصة في القضايا العمالية والتجارية والمحلية والجنائية ولاية كاملة على مجالات تخصصها، وسيتم تحديد اختصاص المحاكم المتخصصة الجديدة والمحاكم العامة لتجنب النزاع على الاختصاص.
وفي 1 أكتوبر/تشرين الأول 2007، أصدر الملك عبد الله بن عبد العزيز مرسوما ملكيا بالموافقة على مجموعة جديدة من القوانين التي تنظّم القضاء ومجلس المظالم، فحلّت القوانين الجديدة محل اللوائح السارية منذ أكثر من 30 عاما داخل مؤسسة القضاء، ونحو 25 عاما لمجلس المظالم.
حيث خصصت المملكة ميزانية قدرها سبعة مليارات ريال (1.8 مليار دولار) “لمشروع الملك عبد الله بن عبد العزيز لإصلاح القطاع القضائي، الذي يهدف إلى رفع مستوى القضاء وتطويره بطريقة شاملة”، وتم استخدام هذه الأموال لبناء محاكم جديدة مع تدريب القضاة وترقيتهم.
كما وافق المرسوم الملكي للملك عبد الله على إصلاح مجلس المظالم السعودي، ليكون الهيكل الهرمي للمحاكم الإدارية الجديدة لمجلس الإدارة موازيا لهيكل المحاكم القضائية ومستقلا عنه.
وأقر القانون الجديد أن مجلس المظالم -الذي سيكون مقره في مدينة الرياض- هو لجنة قضائية إدارية مستقلة مسؤولة مباشرة أمام الملك، ويتكوّن مجلس المظالم من رئيس بمرتبة وزير، ونائب رئيس واحد على الأقل، وعدد من نواب الرئيس المساعدين، وعدة قضاة، ويتم تعيين نواب الرئيس بأمر ملكي ليكونوا على رأس دوائر محاكم الاستئناف الخاصة بالمجلس.
إلا أن كل تلك الإصلاحات لم تغير من جوهر المؤسسة شيئا، فظلت الفوضى القضائية كما هي، وهو ما أكده “آدم كوغل”، وهو ناشط حقوقي أميركي مسؤول عن ملف المملكة العربية السعودية داخل منظمة حقوق الإنسان “هيومن رايتس ووتش”، فيقول: “السعودية تشهد عدالة تعسفية، ولا يوجد هناك قانون للعقوبات، وعموما لا توجد قوانين مكتوبة تنظم العقوبات. إحدى التهم الأكثر شيوعا هي “خيانة الأمانة تجاه الحكام”، ولكن ليس هناك أي وثيقة تشرح بالضبط المقصود بذلك والعقوبات الخاصة بتلك التهمة، ليبقى الحكم مرتبطا في النهاية بالتقدير الشخصي للقاضي”.
ويضيف كوغل: “أحد الأمثلة هي حالة الشاعر أشرف فياض، الذي أُدين بتهمة “الردة”. فأول قاضٍ تكلّف بالقضية أصدر في حقه عقوبة السجن لمدة أربع سنوات و800 جلدة، لكن إحدى محاكم الاستئناف نقضت الحكم الأول وأصدرت بدلا منه حكما بالإعدام. أما القاضي الثالث فألغى عقوبة الإعدام وحكم على فياض بثماني سنوات سجنا و800 جلدة، ورغم أن القضية واحدة، والأدلة واحدة، فقد تم إصدار ثلاثة أحكام مختلفة، وهو ما يوضح تعسف النظام القضائي في السعودية”.
غير أن تلك “العدالة التعسفية” لم تكن شيئا جديدا، بل كان الجديد مُتمثّلا في إنشاء المحكمة الجزائية المتخصصة، وهي هيئة قضائية شرعية تتولى النظر في محاكمة الموقوفين والمتهمين في قضايا الإرهاب وقضايا الأمن الوطني والجرائم المرتبطة به، وقد تأسست في المملكة بتاريخ 29 يناير/كانون الثاني 2008، وتتوزع فروعها على جميع محافظات ومناطق المملكة.
بالطبع تتبع تلك المحكمة المجلس الأعلى للقضاء الذي يعينه الملك أو ولي عهده، ويحق لهم تغيير قضاة تلك المحكمة، ووضع التهم وإدانة المتهمين والحكم عليهم بالإعدام، طبقا لتفسيرهم الخاص للشريعة، وبناء على تهم خيانة الأمانة تجاه الحكام أو التورط في خلايا إرهابية، وهي الاتهامات التي لا يوجد لها تفسير محدد.
وقد بدأت تلك المحكمة أولى المرافعات في 26 يونيو/حزيران 2011 لمحاكمة 85 شخصا يشتبه في تورطهم في تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية وتفجيرات مجمع الرياض 2003.
وفي سبتمبر/أيلول 2011 ظهر 41 من المشتبه بهم بالانضمام لتنظيم القاعدة في المحكمة. وفي العام نفسه، عقدت المحكمة جلسات محاكمة الناشطين في مجال حقوق الإنسان، بما في ذلك محمد صالح البجادي، الشريك المؤسس لجمعية الحقوق المدنية والسياسية في السعودية، ومبارك بن زعير، وهو محامٍ للسجناء، بالإضافة إلى خالد الجهني، الذي تحدث إلى تلفزيون “بي بي سي” العربية خلال احتجاج في الرياض.
وقد أدانت المحكمة 16 من نشطاء حقوق الإنسان بالسجن مدى 5-30 سنة في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، وهي المحكمة ذاتها التي أصدرت 37 تهمة على عدد من الشيوخ والدعاة بالمملكة بعد حملة الاعتقالات التي طالت عددا كبيرا من الدعاة أبرزهم سلمان العودة وعلي العمري وعوض القرني.
لكن الأسوأ على الإطلاق هو ما يقف خلف كل تلك التشكيلات القضائية، أي ذلك الجحيم الذي يقابله المتهمون كل يوم داخل السجون وغرف التحقيق بسراديب المملكة.