السعودية والرقابة الرقمية: قمع بلا حدود في الفضاء الإلكتروني

في عصرٍ تُعد فيه حرية الإنترنت أحد أركان الديمقراطية وحق الإنسان في التعبير والتواصل، تبدو السعودية كواحدة من أكثر الدول تضييقًا على هذا الحق، حيث تحوّل الفضاء الرقمي من منصة للتعبير الحر إلى أداة للرقابة والملاحقة.
وأبرزت لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان في الجزيرة العربية، أنه من خلال منظومة معقدة من الحجب، المراقبة، التشهير، وسَن القوانين القمعية، استطاعت السلطات السعودية أن تفرض قبضة حديدية على العالم الافتراضي، متجاوزةً حدود الرقابة التقليدية إلى نمط جديد من القمع الرقمي المُمنهج.
الإنترنت كمنصة للملاحقة لا للتعبير
بينما يُنظر إلى الإنترنت عالميًا كوسيلة للتواصل الحر وتبادل الأفكار، تَحوّل في السعودية إلى أداة استخباراتية تُستخدم لرصد الناشطين، الصحافيين، والمواطنين العاديين ممن يجرؤون على انتقاد الحكومة أو المطالبة بالإصلاح.
مجرّد تغريدة ناقدة أو مشاركة لرابطٍ يُصنَّف معارضًا قد تجر على صاحبها سنوات من السجن أو حتى حكمًا بالإعدام، كما في قضية المدرّس المتقاعد محمد بن ناصر الغامدي، الذي صدر بحقه حكم بالإعدام في 2023 بعد نشره تعليقات ناقدة عبر حساب مجهول لا يتجاوز متابعوه العشرة.
حجب وتعتيم ممنهج للمعلومة
في كل أزمة سياسية أو حراك حقوقي، تلجأ السلطات السعودية إلى أدواتها التقنية لحجب المنصات الإخبارية، منع الاتصالات، تقييد الوصول إلى المواقع المعارضة، وفرض سردية إعلامية أحادية.
ففي عام 2011، مع اندلاع احتجاجات القطيف، فرضت الحكومة تعتيماً إعلاميًا شاملاً، وحجبت المواقع الحقوقية مثل موقع منظمة العفو الدولية بعد نشره وثائق تنتقد “قانون الإرهاب” الجديد.
الأمر تكرر عام 2017 مع تصاعد التوتر بين السعودية وقطر، حيث حجبت المملكة كل المنصات الإعلامية القطرية، وأزالت قناة الجزيرة من منصات التطبيقات.
كما استجابت شركة تويتر – وفق تقارير حقوقية – لطلب حكومي سعودي بإزالة وسم #إسقاط_الولاية، الذي مثّل حملة نسوية بارزة في تاريخ المطالبة بحقوق المرأة في المملكة.
البنية التحتية الرقمية.. أداة رقابة
بفضل البنية التقنية المركزية التي تتحكم بها الدولة بالكامل، تملك الحكومة قدرة غير مسبوقة على التحكم بالتطبيقات وخدمات الاتصالات.
وما بين عامي 2013 و2017، حُجبت خدمات الاتصال الصوتي عبر الإنترنت مثل واتساب وسكايب، ما أعاق تواصل الملايين، خاصةً في أوساط المغتربين وأصحاب الأعمال.
وخلال التوترات الأمنية، مثل أحداث العوامية عام 2017، قطعت السلطات الكهرباء والاتصالات بشكل كامل، في خطوة تستهدف عزل المنطقة إعلاميًا وتقييد تسريب الصور أو مقاطع الفيديو التي توثق الانتهاكات على الأرض.
الذباب الإلكتروني.. سلاح التشهير والتشويش
من أبرز أدوات النظام الرقمي القمعي هو ما يُعرف بـ”الذباب الإلكتروني”، وهي جيوش إلكترونية منظمة تُطلقها السلطات لمهاجمة المعارضين على الشبكات الاجتماعية، تشويه سمعتهم، والتشويش على الوسوم المناهضة للحكومة.
وقد كشفت صحيفة نيويورك تايمز في 2018 عن توظيف السعودية مئات الأشخاص في هذا الإطار، ضمن حملة منسقة لاستهداف شخصيات مثل الصحافي الراحل جمال خاشقجي.
هذه الجيوش لا تكتفي بالتشويه، بل تزرع الخوف في نفوس الناشطين والمواطنين العاديين، حتى أصبح كثيرون يخشون التفاعل مع منشورات حقوقية أو انتقاد أي قرار رسمي، ما أدى إلى ارتفاع معدلات الرقابة الذاتية داخل المجتمع السعودي.
رقابة تتجاوز الحدود
لم تكتفِ السعودية بتكميم الأفواه داخل حدودها، بل مارست ضغوطًا دولية على شركات تكنولوجية عملاقة. ففي عام 2019، أزالت منصة نتفليكس إحدى حلقات برنامج “باتريوت آكت” بناءً على طلب سعودي لأنها تضمنت نقدًا لولي العهد. هذه الحوادث تطرح تساؤلات حول مدى خضوع شركات التكنولوجيا العالمية لمطالب الأنظمة القمعية حفاظًا على مصالحها الاقتصادية.
وتعتمد السلطات السعودية على قوانين مثل نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية وأنظمة الإرهاب، لتجريم التعبير السلمي على الإنترنت. وبتفسير فضفاض للمصطلحات، يمكن محاكمة أي مواطن بتهمة “الإساءة للنظام العام” أو “التحريض ضد الدولة”، حتى وإن اقتصر نشاطه على إعادة تغريد رأي مختلف.
قضية سلمى الشهاب، التي حُكم عليها في البداية بـ34 عامًا لمجرد تغريداتها المطالبة بالإصلاح، مثال صارخ على سوء استخدام القوانين لتصفية المعارضة الرقمية. وعلى الرغم من تقليص الحكم لاحقًا، لا تزال خاضعة لحظر سفر حتى 2029.
آثار اجتماعية ونفسية واقتصادية
أدى هذا الجو الرقابي إلى تآكل النقاش العام، وتراجع مستوى الوعي المجتمعي بالحقوق، وعزل شرائح واسعة عن قضايا بلادهم. أصبحت الأسر تتجنب النقاشات السياسية، والمواطنون يتجنبون حتى الضغط على “إعجاب” خشية أن يُفسَّر على أنه دعم لمعارضة.
كما أثرت الرقابة على الحياة التجارية والاقتصادية، حيث تأثرت شركات تعتمد على أدوات الاتصال الرقمي، وتراجعت المبادرات الشبابية التي تحتاج لبيئة حرة ومفتوحة للإبداع والتطوير.
وفي ضوء ما سبق، أكدت في لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان أن القمع الرقمي في السعودية يشكّل خطرًا وجوديًا على الحريات العامة، مطالبة بالإفراج عن كافة المعتقلين بسبب تعبيرهم الرقمي.
كما طالبت اللجنة الحقوقية بإلغاء القوانين الفضفاضة التي تُستخدم لتجريم حرية التعبير، وإنهاء سياسات الحجب والمراقبة، وحماية حق المواطنين في الوصول إلى المعلومة والتعبير عن الرأي دون خوف.




