عاد التفكك الاجتماعي داخل عائلة آل سعود، للواجهة مجددا، في ظل الانشقاقات داخل العائلة الحاكمة بين تياري (الأب والابن) بشأن التطبيع مع إسرائيل.
وهذا التفرق والانشقاقات، ظهر بقوة منذ تولي محمد بن سلمان ولاية العهد صيف 2007م، بانقلاب ناعم على ابن عمه الأمير محمد بن نايف، ثم قيامه بعد عدة أشهر بتنفيذ حملة اعتقالات واسعة شملت أكثر من 370 أميرا من العائلة الحاكمة ورجال أعمال داخل فندق “الريتز كارلتون” والسيطرة على أموالهم.
وعمد بن سلمان على إقصاء أبناء عمومته وتهميشهم من المناصب الحكومية الرفيعة عدا عن اتهام العشرات منهم بالفساد والسرقة حتى أن مراقبون للشأن السعودي يقولون: “إن النظام السعودي برمته في خطر”.
والأسبوع الماضي، أثارت الانتقادات السياسية التي وجهها الأمير السعودي تركي الفيصل في مؤتمر البحرين للسياسات الإسرائيلية تساؤلات عن دلالات ذلك، ويبدو أن محاولة الفهم لما وراء التصريحات يستدعي الاشارة لبعض الملاحظات، بحسب الأكاديمي والباحث د. وليد عبد الحي.
وتبدو الملاحظة الأولى: أنه يجب أن لا يغيب عن الذهن أن تركي الفيصل التقى مسؤولين إسرائيليين عديدين أثناء توليه مناصب رسمية وبعدها، فقد التقى وصافح نائب وزير الخارجية الإسرائيلي السابق داني ايلون في مؤتمر الأمن الدولي في ميونيخ عام 2010 (أي قبل موجة التطبيع الخليجي الاسرائيلي الحالية).
والتقى الأمير تركي بل وامتدح أداء وزيرة الخارجية الاسرائيلية السابقة تسيبي ليفني في مؤتمر الأمن في ميونيخ أيضا ولكن عام 2014، ذلك يعني ان الرجل ليس ضد التطبيع كإستراتيجية ولكنه ضد “منهجية ” التطبيع.
ويلاحظ أن تصريحات تركي الفيصل الناقدة لـإسرائيل تأتي بعد فترة وجيزة جدا من الانتقادات الحادة للفلسطينيين والتي أعلنها بندر بن سلطان (الذي عمل في أعلى المناصب الأمنية السعودية إلى جانب أكثر من 23 سنة سفيرا للسعودية في الولايات المتحدة).
يشار إلى أن هناك خلافات سياسية بين بندر بن سلطان وتركي الفيصل منذ فترة طويلة حول الموقف من إيران وحول النووي الإسرائيلي وحول فكرة الإصلاح الداخلي (حيث دعا تركي في عام 2003 إلى انتخاب أعضاء مجلس الشورى السعودي) وخلافات حتى حول بعض المواقف من التيارات الإسلامية، وهو ما يعني أن انتقادات إسرائيل من قبل تركي الفيصل ليست منفصلة عن الرؤية العامة لكل من الشخصيتين للأوضاع في الشرق الاوسط.
والملاحظة الأخرى أن انتقادات تركي الفيصل لمجمل السياسات الإسرائيلية تأتي أيضا بعد أيام قليلة من التقارير الصحفية (أمريكية واسرائيلية) عن لقاء بين نتنياهو وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في مدينة “نيوم” التي يعتبرها بن سلمان مشروعه الاستراتيجي الداخلي ولها رمزيتها في العلاقة بين الطرفين.
ولكن بالمقابل ثمة سؤالان يلحان على اجابتهما:
1- لو أن دونالد ترامب فاز في الانتخابات الرئاسية الأمريكية هل كان تركي الفيصل سيدلي بهذه التصريحات؟، لا اعتقد ذلك، لأنه يدرك أن المواقف الجذرية لترامب هي معاقبة كل من يقف امام استراتيجيته الشرق أوسطية، ويدرك تركي الفيصل بخبرته الأمنية ومعرفته العميقة بالمؤسسة السياسية الأمريكية ان الانحياز الأمريكي لأي طرف في الصراع الداخلي في أي دولة هو متغير استراتيجي لا يمكن تجاهله.
ويستنتج: “لذا لو فاز ترامب لما سمعنا- في تقديري- هذه التصريحات” والقول للباحث د. وليد عبد الحي.
وأما السؤال الثاني: هل لو كان المؤتمر منعقدا في مكان غير البحرين، هل كان تركي الفيصل سيدلي بهذه الأقوال؟ ربما سيقولها ولكن بالتلميح أو بعبارات دبلوماسية تكون أكثر قابلية للتأويل، ولكنه يريد أن يعارض “منهج التطبيع” لأنه يريد ثمنا مقابل التطبيع.
وبالتالي: الأمير تركي ليس ضد التطبيع كاستراتيجية خاصة أنه أكد على أولوية المبادرة العربية (وهي مبادرة سعودية في جوهرها) والتي تتضمن التطبيع الكامل مع إسرائيل. وبالتالي فهو قابل بالتطبيع ولكنه يريد إيصال رأيه من خارج الحلبة السعودية ولكن من حلبة تمثل امتدادا للحلبة السعودية وبدون مواجهة مباشرة.
وخلص الباحث عبد الحي إلى أن التماسك التاريخي داخل العائلة الحاكمة في السعودية (رغم بعض المظاهر المعاكسة في مراحل تاريخية قليلة وقصيرة الأمد) اصيب إصابة بالغة بعد ما جرى لرموز العائلة الحاكمة ونخبة المجتمع السعودي في معتقل “الريتز كارلتون”، وبعد سلسلة الفتوق في عباءة ولاية العهد (مقرن ومحمد بن نايف) ثم في تهميش ومواراة رموز كبيرة من العائلة (أحمد بن عبد العزيز) وانتزاع مكانة البعض (متعب بن عبدالله القائد السابق للحرس الوطني).
وخلص أيضا: أن ما سبق يجعلني أظن أن تصريحات تركي الفيصل هي تعبير عن تداعيات الفتوق التي أصابت نسيج عباءة ذلك التماسك التاريخي، ويبدو أن التداعيات ستتواصل داخل العائلة داخليا وخارجيا .
وأشار عبد الحي إلى أن التيار الذي لا يشارك ولي العهد توجهاته الاستراتيجية بدأ يخشى على “النظام بكامله”، فالصراع العائلي مضافا له تفكيك الحركة والثقافة الدينية الداخلية واعتقال كبار رموزها بل وتصنيف الحلفاء التاريخيين من الحركات الإسلامية بالارهاب، ثم تراجع القدرة المالية بسبب انهيار أسعار النفط.
وكذلك الانغماس في حرب اليمن بكل ما لها من تداعيات سياسية واقتصادية واجتماعية بل ووجدانية على داخل المملكة وعلى صورتها الدولية خاصة بعد تهكمات ترامب وواقعة تقطيع وحرق الصحافي السعودي البارز جمال خاشقجي (والتي سبق وأن دافع فيها تركي الفيصل عن محمد بن سلمان).
وختم الأكاديمي عبد الحي أن كل ذلك جعل التيار “المعارض لتوجهات ولي العهد” يحاول لجم هذه الاستراتيجية والتي يبدو أن الأب سلمان غير قادر على ضبطها، وهو ما يعني أن تصريحات تركي الفيصل هي تعبير عن تزاحم على كرسي ما بعد سلمان بين تيارين أحدهما “مُنْبتٌ” (قد لا يقطع أرضا ولا يُبقي ظَهرا) والأخر ” مُتريث ” يخشى أن يخسر التياران كل شيء، كما يدرك هذا التيار الثاني أن صورة “اليهودي” التي استقرت في وعي ولاوعي “المجتمع ” السعودي لا تلغى بالبساطة التي افترضها التيار الأول.