الضمان الاجتماعي في السعودية: من شبكة أمان إلى أداة إذلال
في مشهد يكشف هشاشة العلاقة بين السلطة والواقع الاجتماعي في السعودية، تفجّرت خلال الأيام الماضية موجة غضب شعبي غير مسبوقة على منصات التواصل، بدأت بتصريح عابر لرجل الأعمال يزيد الراجحي من داخل طائرته الخاصة، أعقبها حملة تهديد قانوني ضد منتقدين وبسيل شكاوى متزامن من مواطنين فوجئوا بإيقاف معاشات الضمان الاجتماعي المطوّر، المصدر الوحيد للعيش لدى كثيرين منهم.
ورأى مراقبون في هذه القضية كشف صارخ لفجوة اجتماعية آخذة في الاتساع حيث نخبة ثرية تتحدث عن “التمسّ الأعذار” من مقاعد الرفاه، وقاعدة شعبية مسحوقة تُطالَب بالصمت وهي تُنتزع منها أبسط أدوات الأمان المعيشي.
تصريح أشعل الرأي العام
انطلقت الشرارة مع تداول مقطع ليزيد الراجحي يدعو فيه المواطنين إلى تقبّل أخطاء المسؤولين والتمس لهم الأعذار، مؤكداً أن “الجميع يخطئ” وأن القرارات تُتخذ “لمصلحة المواطن”.
وفي بلد تتآكل فيه قدرة آلاف الأسر على تلبية احتياجاتها الأساسية، بدا الكلام وكأنه إنكار فجّ للواقع، لا دعوة إلى التعقّل.
والرفض لم يكن نخبوياً أو سياسياً، بل خرج من قلب المعاناة اليومية. عشرات المقاطع المصوّرة انتشرت لمستفيدين من الضمان الاجتماعي المطوّر أكدوا توقف المعاش دون سابق إنذار، وما ترتّب على ذلك من عجز عن دفع الإيجارات، وتراكم الديون، وضغوط نفسية خانقة على أسر محدودة الدخل. هكذا تحوّل “الالتماس” إلى إهانة، وتحولت “حسن النية” إلى مصادرة لحق النقد.
ولم يكن مستغرباً أن يطلق وسم #مقاطعة_يزيد_الراجحي، وأن تمتلئ المنصات بمطالبات بالاعتذار، لا لأن التصريح زلّة لسان، بل لأنه عبّر – في نظر كثيرين – عن عقلية ترى الفقراء عبئاً يجب عليهم الصبر، لا حقوقاً يجب صونها.
اعتذار بلا أثر
لاحقاً، خرج الراجحي بتوضيح واعتذار، قال فيه إن حديثه أُخرج عن سياقه وإن المقاطع المتداولة مجتزأة. غير أن الاعتذار لم يُطفئ النار. المشكلة لم تكن تقنية مونتاج، بل مضموناً.
لكن لم يسمع المتضررون إجابة عن سؤالهم الجوهري: لماذا يُقطع الضمان فجأة؟ ومن يحاسب على آثار ذلك؟ ولماذا يُطلب من الضحية تفهّم الخطأ بدل إصلاحه؟
هنا اتّسع الشرخ. الاعتذار بدا شكلياً، منفصلاً عن معاناة حقيقية، وكأنه موجّه لإدارة الأزمة إعلامياً لا لمعالجة أسبابها اجتماعياً.
التصعيد الأخطر: سلاح القضاء
جاء المنعطف الحاسم مع تصريحات محامي يزيد الراجحي عن نيته رفع مئات القضايا ضد منتقدين على منصة «إكس» بتهم التشهير والإساءة. الرسالة كانت واضحة: من يعترض سيدفع الثمن.
ففي بلد يُعدّ فيه القضاء سيفاً مسلطاً على الرقاب في القضايا العامة، فُهم التهديد على أنه محاولة لترهيب المواطنين وإسكات الغضب، لا حماية “السمعة”.
ولم يعد الجدل حول تصريح، بل حول ميزان قوة مختل: ملياردير مدعوم بالمال والنفوذ، في مواجهة مستفيدين من الضمان الاجتماعي لا يملكون سوى هواتفهم. هذا التحول فجّر موجة غضب أوسع، واتهامات باستخدام القضاء كأداة لكسر الصوت الاجتماعي، لا كملاذ للعدالة.
في هذا السياق، جاءت تصريحات المتحدثة الرسمية باسم حزب التجمع الوطني، د. مريم الدوسري، لتلخص المزاج العام بعبارات لاذعة: “عندما يدافع ملياردير عن قطع الضمان، ثم تُرفع مئات الدعاوى على مستفيدي الضمان لأنهم غضبوا ودافعوا عن حقهم، فهذه ليست هيبة قانون، بل سحق ممنهج للمحتاج. تجويع الناس ثم وصفهم بالخيانة؟ هذا ظلم وتكميم لصوت المواطن عبر القضايا”.
والضمان الاجتماعي المطوّر، وفق التعريف الرسمي، برنامج لحماية الفئات الأشد احتياجاً وتحسين مستوى معيشتهم، عبر توفير دخل أساسي عادل وتمكين القادرين على العمل. المستهدفون هم الأسر منخفضة الدخل، الأرامل، المطلقات، كبار السن، ذوو الإعاقة، والعاطلون عن العمل.
لكن الواقع الذي تكشفه الشكاوى يناقض الخطاب. إيقافات مفاجئة، غياب الشفافية في المعايير، وتعامل بيروقراطي بارد مع مصائر بشر. سبق لصحيفة “صوت الناس” أن رصدت هذه المعاناة بعنوان: “المواطن يتسول حقه.. سعوديون يستنكرون استبعاد بعض الفئات من الضمان الاجتماعي المطور”. اليوم، تتجدد القصة بأبعاد أشد قسوة.
وبحسب مراقبين فإن ما جرى ليس أزمة علاقات عامة لرجل أعمال، بل مرآة لسياسات اجتماعية مأزومة. حين يُطلب من الفقير الصمت باسم “المصلحة العامة”، ويُهدد بالقضاء إن احتج، فإن المشكلة لم تعد في تصريح ولا في وسم، بل في بنية ترى العدالة من أعلى إلى أسفل، لا من الناس إلى السياسات.
والغضب الشعبي هنا ليس “تشهيراً”، بل صرخة. واللجوء إلى القضايا لن يدفنها، بل سيعمّقها. لأن الجوع لا يُقاضى، والفقر لا يُخرس، وكرامة المواطن لا تُدار من مقصورة طائرة خاصة.




