يتعمد ولي العهد محمد بن سلمان بطبيعة القرارات والسياسية الغريبة التي يتخذها تقويض سلسلة الشرعيات الرئيسية في المملكة (الدينية، والسنية، والخليجية) التي قامت عليها المملكة.
وتثار تساؤلات عديدة في المملكة عن سر غياب المستشارين المؤتمنين لبن سلمان وعمّا إذا كان ثمّة من يشير عليه بفعل كذا وعدم فعل كذا، ما ينفع البلاد والعباد، لكن مقربون من ولي العهد يؤكدون أن لديه مستشارين على أعلى درجات الوعي والرؤية الثاقبة، إلا أن مشكلة صاحب الأمر أنه كان لا يستمع لهذه الاستشارات، بل قد يعمل بعكسها، ويلقي بها في سلة المهملات.
لا أحد من العرب والمسلمين، يتمنّى الشر لمملكةٍ تحرس وتدير أكثر الأماكن قدسية للأمة، ولها أياد بيضاء امتدت لتصل إلى أقصى أقاصي الأرض.
ولا يمكن إحصاء مآثر المملكة واهتمامها بنشر المصحف الشريف وبناء المساجد والجمعيات الخيرية ومراكز العلم، فهي كثيرة، وتشهد عليها مئات المؤسسات التي رعتها المملكة.
لكن القلق يتصاعد في العالمين العربي والإسلامي مع مراقبة ما يمكن تسميتها عملية تفكيك أو إعادة بناء المملكة من الداخل، وبشكلٍ يبدو ممنهجا، وبإصرار شديد، وفق رؤيةٍ غريبةٍ بدت آثارها سريعا في هذا البلد العزيز على قلب كل مؤمن.
يلحظ المراقب المحايد لعملية التفكيك أو إعادة البناء، أنها بدأت من دائرةٍ ضيقةٍ ثم امتدت لتشمل دوائر أكثر اتساعا، وعلى نحو متسارع وبلا تدرج منطقي.
بدأت الإجراءات الكبرى بجملة القرارات الداخلية التي أثرت أولا على العائلة المالكة، ومزّقتها شذر مذر، للوصول إلى مقعد ولي العهد، حتى إذا تم الأمر، بدأ النهش بالنخبة الاقتصادية، فجرى لها ما جرى في فندق الريتز، ثم استدار صاحب القرار إلى النخبة الدينية، فكمّم أفواهها بالاعتقالات والعزل والإبعاد، فاعتقل من اعتقل، وعزل من عزل، وفرّ من فر، وعوقب من عوقب.
واعتُمدت سياسة بن سلمان على إسكات كل من يفتح فمه ولو برأيٍ فكري، أو معارضةٍ وجدانيةٍ حتى، فأصبحتَ لا تسمع إلا صوتا واحدا ونغمةً واحدة، وأطلق العنان لما تسمى “جبهة الترفيه”، وهي الاسم الحركي لتخدير الشباب وسلخ المجتمع عن قيمه وعاداته، وما درج عليه القوم عقودا طويلة. وخارج هذه الجبهة، غير مسموح بأي رأي أو اعتراض.
وترافق هذا كله مع تغييراتٍ بنيويةٍ في اقتصاد المملكة، من رفعٍ للضرائب والمكوس، وسعودة غير منضبطة، بل متوحشة أحيانا، قوّضت أركان المجتمع المقيم في البلاد، مع رفع أسعارٍ مجنونٍ للسلع والخدمات (بما فيها رسوم الإقامات)، تميز بحرق المراحل، وخلخلة بنية المجتمع، عبر إجراءاتٍ لتخليص البلاد من حمولةٍ زائدةٍ لعمالة عربية وأجنبية.
فإذا تركنا هذه الدائرة، تحرّكنا إلى دائرة أكثر اتساعا، وهي ما يمكن تسميتها البيئة الخليجية، حيث عمل صاحب القرار على سلخ المملكة من هذه الدائرة عبر قطع أواصر العلاقة مع قطر، بسلسلة إجراءات سياسية واقتصادية مفاجئة، وغير ممهد لها، بلا سبب منطقي، كادت، في وقت ما، أن تصل إلى المواجهة العسكرية، الأمر الذي أدّى إلى هدم مجلس التعاون الخليجي.
وفتح جبهة اليمن التي أنهكت المملكة وجلبت عليها أعباء لا قِبل لها بها، أوصلها إلى خطرٍ يكاد يشل شريان الحياة فيها، المتمثل في الثروة النفطية التي تعرّضت لضربات موجعة (إبقيق وغيرها).
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أمعن بن سلمان بهدم الأساس الأول الذي قامت عليه المملكة، وهو الشرعية الدينية، فناصب الإسلام السني العداء، وهو كان رمزا لزعامة العالم السني، وأعلن واحدةً من أكبر الجماعات السنية التي تحالفت معها المملكة في وقت ما، “منظمة إرهابية”، وهي جماعة الإخوان المسلمين، و”توجها” بإلحاق حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بسمة الإرهاب أيضا.
كما شن حملة اعتقالات شعواء على كل من يناصرها من العرب، وخصوصا الأردنيين والفلسطينيين، وألغى كل الامتدادات الدعوية للمملكة أو كاد، ورافق هذا فتح لقنوات تواصل وتعاون مع عدو الأمة الأزلي، المشروع الصهيوني في فلسطين، حيث بدا أنه أصبح حليفا مميّزا.
والكلام يطول هنا عن ملاحقة كل ما ومن يناقض الرؤية الجديدة، في عالمنا العربي، من حيث تمويل عمليات شيطنة ثورات الربيع العربي، والصرف بلا حسابٍ من أموال الأمة لإطفاء كل شمعة نور تضيء هنا أو هناك.
وبالجملة، حاول بن سلمان في زمن قياسي “خلق” دولة أخرى غير التي نعرفها، ولكن بأسلوبٍ تميز بالاضطراب، حتى ليحار المرء بالصفة التي يمكن أن نطلق عليها، أهي عملية إعادة بناء أم تفكيك.
السؤال هنا على غير صعيد، وفي غير محفل، لمصلحة من يتم هذا كله؟ وهل يستحق الجلوسُ على العرش كل هذه “التضحية”؟ وهل سيبقى عرشٌ أصلا للجلوس عليه، إذا ما قوّضت أركان “المعبد”، وانهارت كل الشرعيات التي قامت عليها البلاد، ابتداءً من شرعية التأسيس والشرعية الدينية، مرورا بالشرعية الخليجية، وصولا إلى الشرعية السنية؟
التغيير والتطوير سنة الحياة، وهو مطلوبٌ في كل حين، ولكن حين يتعلق الأمر بالمجتمعات البشرية، يجب الحذر من التغييرات الفجائية غير الممهد لها، وغير المتدرجة، إذ ثمّة احتمال كبير أن ينهار المجتمع، أو “ينحرف” إلى غير الوجهة المستهدفة، وتلك بلادٌ يهم أمرها كل عربي ومسلم، ولا نتمنّى لها إلا الخير، ولا نقول ما نقول إلا حرصا عليها وخوفا عليها.
وربما لم يفت الوقت اليوم لإعادة النظر في كل ما جرى، ومراجعة المسير، وتقويمه، ليس لمصلحة جزيرة العرب فقط، بل لمصلحة هذه الأمة بأسرها، ومستقبل أجيالها.