
في الوقت الذي تعيش فيه السعودية على وقع الانتقادات الدولية بسبب السجل المظلم في مجال حقوق الإنسان، تواصل الحكومة بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان إنفاق مليارات الدولارات من أموال صندوق الاستثمارات العامة في محاولة لتلميع صورتها عالميًا عبر ما يُعرف بـ”التلميع الرياضي” أو الـSportswashing.
هذه السياسة، التي تقوم على استضافة فعاليات رياضية كبرى ورعاية بطولات عالمية، تهدف في جوهرها إلى صرف الأنظار عن القمع السياسي، وغياب الحريات، وانتهاكات حقوق الإنسان داخل المملكة.
غسيل السمعة عبر الرياضة
صندوق الاستثمارات العامة، أحد أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم بأصول تتجاوز 700 مليار دولار، تحوّل إلى أداة رئيسية في معركة السعودية لتغيير صورتها الخارجية. ومن خلاله، اشترت المملكة حقوق استضافة أحداث رياضية عالمية، مثل:
كأس السوبر الإيطالي وكأس السوبر الإسباني، حيث أُجبرت أندية أوروبية كبرى على السفر إلى جدة والرياض للتنافس أمام جمهور سعودي.
بطولة الكونكاكاف الذهبية، التي عُقدت في المملكة لأول مرة خارج الأميركتين.
بطولة السعودية الدولية للجولف بجوائز ضخمة بلغت 5 ملايين دولار.
سباق الجائزة الكبرى للفورمولا 1 الذي يُقام سنويًا في جدة، وسط مشاهد تسويقية ضخمة تتجاهل الأوضاع الحقوقية.
والأهم، كأس العالم لكرة القدم 2034، الذي فازت المملكة بحق استضافته بعد انسحاب المنافسين تحت ضغوط مالية وسياسية هائلة.
هذه الاستثمارات لا تقتصر على الرياضات التقليدية، بل تمتد إلى الرياضات الإلكترونية، وهي قطاع يشهد نموًا عالميًا مذهلًا، حيث تستضيف الرياض بطولة كأس العالم للرياضات الإلكترونية بتمويل مباشر من صندوق الاستثمارات العامة.
الرياضات الإلكترونية: جيل جديد من الدعاية
لم تعد الرياضات الإلكترونية مجرد ترفيه، بل صناعة بمليارات الدولارات يتابعها مئات الملايين عالميًا. السعودية تدرك أن هذه الساحة الرقمية تمثل مدخلًا قويًا للتأثير على جيل جديد من الشباب، خصوصًا في الغرب.
في بطولة ليج أوف ليجندز، إحدى أبرز ألعاب كأس العالم للرياضات الإلكترونية، انقسم مجتمع اللاعبين بين معجبين بالجوائز الضخمة والمستوى الاحترافي، ومعترضين على قبول أموال من دولة تُتهم بارتكاب جرائم حرب في اليمن، وقمع الحريات، وتنفيذ إعدامات جماعية.
وبينما تُقدَّم البطولة باعتبارها منصة عالمية للمساواة والشمول، تتصادم هذه الصورة مع واقع السعودية الداخلي، حيث تُسجن الناشطات لمجرد مطالبتهن بقيادة السيارة أو إنهاء نظام الوصاية الذكورية.
تناقض صارخ: بطولة نسائية في بلد يقمع المرأة
إحدى أكثر المفارقات إثارة للسخرية هي إدراج بطولة نسائية للرياضات الإلكترونية ضمن فعاليات كأس العالم في الرياض، بجائزة قدرها 150 ألف دولار. يشارك في البطولة فريقان سعوديان نسائيان، يتم تقديمهما كدليل على “تمكين المرأة”.
لكن خلف هذه الصورة التجميلية، تواجه المرأة السعودية قيودًا عميقة:
استمرار نظام الوصاية الذي يمنح الذكور سلطة على قرارات النساء.
تقييد حرية التعبير والتنظيم السياسي.
سجن ناشطات بارزات مثل لجين الهذلول لمجرد الدعوة إلى إصلاحات أساسية.
إن الاحتفاء بفِرق نسائية سعودية على المسرح العالمي بينما تُحرم النساء في الداخل من حقوقهن الأساسية ليس سوى نفاق سياسي صارخ يهدف إلى تضليل الرأي العام.
حقوق الإنسان: سجل لا يمكن تلميعه
تسعى السعودية عبر هذه الفعاليات إلى إغراق وسائل الإعلام العالمية بصور الملاعب المضيئة وحفلات النجوم، لكن الواقع مختلف:
الاعتقالات التعسفية مستمرة ضد المعارضين، الصحفيين، وحتى رجال الدين الذين يرفضون سياسة الحكومة.
الإعدامات تسجل مستويات قياسية، شملت قاصرين وأشخاصًا متهمين بالمشاركة في احتجاجات سلمية.
الحرب في اليمن ما تزال جرحًا مفتوحًا، حيث تتحمل السعودية مسؤولية مباشرة عن غارات استهدفت مدنيين وأسفرت عن آلاف القتلى.
قمع حرية التعبير يتجلى في تجريم أي نقد للحكومة على وسائل التواصل الاجتماعي.
الصحافة العالمية تحت المجهر
بينما تضخ السعودية مليارات في شراء حقوق البث والفعاليات الرياضية، لا تزال تقارير المنظمات الحقوقية مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية تؤكد أن هذه السياسة ليست سوى ستار دخاني لإخفاء الانتهاكات اليومية.
وفي الوقت الذي تحتفي فيه وسائل الإعلام الرياضية بالجوائز القياسية، يواصل الناشطون الحقوقيون حملاتهم ضد ما يسمونه “التطبيع مع القمع”، محذرين من أن قبول الأموال السعودية يُسهم في تبييض جرائمها بدلًا من مواجهتها.
استنتاج: صورة لامعة وواقع مظلم
من الواضح أن السعودية لن تتوقف عن ضخ الأموال في الرياضات التقليدية والإلكترونية، مدفوعة برغبة جامحة في تحسين صورتها على الساحة الدولية.
لكن هذه الجهود، مهما بلغت تكلفتها، لن تنجح في طمس الحقيقة: وراء الأضواء البراقة للملاعب والبطولات، هناك نظام يستمر في سحق الحريات وقمع الأصوات المستقلة وارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
إن الاستثمار في الفعاليات الرياضية ليس سوى واجهة دعائية، لكن العالم ــ والجماهير التي تتابع هذه الرياضات ــ يدركون أكثر فأكثر أن هذه الأموال المليارية تُستخدم لشراء الصمت الدولي، وليس لإصلاح الداخل.