موجة الربيع العربي الثانية تؤكد تراجع آل سعود والثورات المضادة
أثبتت موجة الربيع العربي الثانية التي تشهدها عدة بلدان عربية تراجع نفوذ وقوة النظام الرسمي العربي القديم بقيادة نظام آل سعود وما يحيكه من مؤامرات في قيادة الثورات المضادة.
وقد أتت الموجة الأولى من احتجاجات الربيع العربي التي أسقطت جزءا من النظام الرسمي العربي القديم، وعصفت بالجزء الآخر مطلع 2011، محمولة على هموم اقتصادية ومعيشية يعاني منها ملايين الشبان العرب، بعد فشل تلك الانظمة في توفير التنمية أو الحياة الكريمة، وبقيت تحكم شعوبها بقبضة من حديد.
كان ضعف العامل الذاتي وغياب القوى السياسية الفاعلة التي توفر البديل الثوري للنظام القديم أحد أهم الاسباب التي وضعت تلك الثورات في صراعات وفي مواجهة ثورات مضادة.
أدى ذلك إلى نشوء حالة من التطاحن الداخلي بين قوى تستند إلى مراكز إقليمية وازنة، في وقت ظل نظام آل سعود يمثل عنوان حماية وإعادة إنتاج النظام الرسمي العربي.
وكانت سوريا عنوان التلاقي والتصادم بين تلك القوى وقد تحولت إلى مستنقع من الدماء، حيث كان كل من مسار الإسلام السياسي وقوى النظام الرسمي العربي تتصارع مع النظام السوري، وتتصارع فيما بينها، بينما كان الحضور الإيراني بارزا بوضوح في الساحة السورية.
مع مضي نحو العقد على موجة الربيع العربي الأولى، تطل اليوم موجة ثانية، تشهدها الجزائر والسودان ولبنان والعراق، بينما تشهد بعض الساحات العربية حالة من الغليان في انتظار لحظة الانفجار الكبير.
ويمكن اعتبار الانتخابات التونسية نموذجا جديدا من الثورات الداخلية عبر صناديق الانتخاب، أدت إلى شطب القوى التي تمكّنت من استثمار سقوط النظام، لتجد لها موقعا في النظام الجديد، وإن كانت، في جوهرها، امتدادا للقديم وجزءا من ثقافته وتجربته وإحدى تجلّياته.
موجة الربيع العربي اليوم تأتي في ظل تنامي معدلات الفقر والبطالة، وتفشّي الفساد وغياب العدالة وضعف الحاكمية وسلطة القانون، وفي ظل حالة من التشبيك غير المسبوقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتي إن كانت حاضرةً بقوة في عام 2011، إلا أنها اليوم أصبحت أكثر انتشارا وتأثيرا، خصوصا مع تراجع وسائل الإعلام التقليدية وانهيارها، بفعل هيمنة الأنظمة على كثير منها، وعلى محتوى ما تنشره.
ولعل ما يميز موجة الربيع العربي الثانية ضعف القوى التقليدية التي كانت في 2011 تمتلك إمكانية توظيف هذه الهبّات أو الثورات من أجل تحسين موقعها في الحكم أو إعادة صياغة الحكم عبر المجيء بها، على الرغم من أن برامجها الشعاراتية والديماغوجية لم تعالج المسائل التي كانت السبب العميق في تلك التحرّكات.
يضاف إلى تراجع القوى الداخلية أيضا تداعي الأطراف الإقليمية المؤثرة، ففي 2011 كانت العربية السعودية تمتلك القوة الاقتصادية والسياسية، من أجل التأثير في مجريات الأحداث، إلا أنها اليوم تغرق في جملة من المتطلبات الداخلية التي تتراوح بين مستقبل العرش والوضع الاقتصادي المعقد داخليا وأزمات الحروب في اليمن وسورية والحضور الإيراني في المنطقة.
أما ثاني اللاعبين الإقليميين المستند إلى قاعدة عريضة من الإسلام السياسي، فيمكن القول إن الصراع الذي نشب بين بقايا النظام القديم و”الإخوان أنهك الطرفين، وهو ما ارتد على تركيا بوصفها النموذج الأبرز لنجاح الإسلام السياسي، غير أن الانتخابات المحلية أخيرا (مارس/ آذار 2019) دليل على تراجع مكانة الحزب، إضافة إلى الانشقاقات التي تعمل داخل حزب العدالة والتنمية والأزمة الاقتصادية الخانقة، ومسائل الأزمة السورية وتبعاتها من ملف الأكراد والتنظيمات الإرهابية، وهو ما سيحول دون تمكّن تركيا من خوض مغامرة جديدة في دعم أو تبنّي أي خيار ثوري بنكهة إسلامية في قادم الأيام.
أعقد اللاعبين، إيران، تعرضت طوال الأزمة السورية إلى ضغط اقتصادي ودولي، أدّى إلى انتزاعها اتفاقا بشأن برنامجها النووي، وهو ما تخلّى عنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ولعل الضغوط الممارسة على الاقتصاد الايراني ساهمت في تبلور شكل ما من التسوية بين الإيرانيين والأميركان سيكون النفوذ الإيراني في المنطقة، وخصوصا سورية ولبنان وحركتي الجهاد الإسلامي وحماس، والحوثيين أحد أبز الأوراق التي على إيران أن تقدم تنازلات واضحة فيها، إضافة إلى تنامي مزاج شيعي عربي في جنوب العراق، يوكد على عراقية العراق، وعراقية المرجعية الشيعية.
أما التوجهات الدولية في المنطقة، فقد شكل التفاهم الروسي الأميركي خلال الأزمة السورية، وكذلك التفاهم بشأن ملف إيران النووي، ومستقبل سورية من خلال اللجنة الدستورية، عنوانا للتفاهمات الدولية التي تعتبر أساسا لصياغة مستقبل المنطقة ومستقبل اللاعبين الإقليميين فيها.
لعل الانتفاضة في لبنان اليوم الذي يعد أعقد وأقدم الساحات التي تقيم توازنا هشا بين اللاعبين الدوليين والإقليميين ما بعد اتفاق الطائف تكشف عن أن التفاهمات الدولية، وإنهاك الأطراف الإقليمية ساهم في فتح ثغرة في الصيغة الهشّة لبنانيا، والتي كانت نتيجة لتفاهم سوري سعودي قبل نحو ثلاثة عقود، غير أن التحولات التي عصفت في المنطقة ستؤدي حتما إلى صياغة لبنان جديد، للبنانيين دور بارز فيه.
إذا كانت الهزة التي عصفت بالعالم العربي سنة 2011 أدت إلى قلب أنظمة وهز أخرى، إلا أنها عمليا أسست لحالة وعي وفهم لدى جيل من الشباب العربي، يحلم بالعيش الكريم والديمقراطية، وهو جيل سيأتي على ما تبقى من النظام الرسمي العربي القديم، بكل ما فيه من قوى أيديولوجية ورسمية ساهمت جميعها في هذا الخراب العربي الكبير.