يواجه ملف الحريات تدهورا مستمرا في السعودية في ظل تعنت نظام آل سعود على الرغم من تصاعد الصورة الملطخة للمملكة على المستوى الخارجي.
ويُلاحَظ بعد مرور عامين على اغتيال الصحافي البارز جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول، أن شيئاً مما كان على السعودية أن تتعلمه من هذه القضية، وأن تشرع بإجراء التغييرات على سياساتها الداخلية لتغيير الصورة التي بدت فيها أمام العالم، لم يحدُث.
ويمكن القول إن نظام آل سعود قد نجا من الهزّة التي تعرَّض لها في إثر فضيحة الاغتيال، بعدما مدَّ له بعض أصدقائه يد العون، وقدَّم مقابل ذلك تنازلاتٍ كثيرةٍ، لكن ما كان يمكن له أن يجعل تلك النجاة أكثر دواماً وثباتاً هو البتّ في ملف هذه القضية بشفافية، والبت كذلك في ملف الحريات في البلاد، للخروج إلى الآخرين بمظهر جديد للدولة التي لا تخشى أن تهزَّ عرشَها كلمةٌ ينشرها ناشطٌ على وسائل التواصل الاجتماعي، أو مطالبة ناشطةٍ ما بحرية المرأة في قيادة السيارة.
بعد مرور عامين ما زالت قضية اغتيال خاشقجي تخيِّم على كل مفاصل الحياة السياسية، بل والاقتصادية في المملكة، وتصبغ علاقاتها الخارجية بصبغة الجمود والريبة.
إذ إن صورة ولي العهد محمد بن سلمان، معزولاً خلال قمة مجموعة العشرين في بيونس أيريس، أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، ما زالت ماثلة أمام الجميع في المملكة، ولدى متابعي أحوالها.
حينها كانت أصداء الجريمة، وانتهاك حقوق الإنسان في البلاد، وكذلك أصداء الجرائم التي تنتهكها قوات التحالف العربي الذي تقوده بلاده في حربها على اليمن، كانت الخبر الأكثر تداولاً في الإعلام وبين الدبلوماسيين. منذ تلك الأيام، لم تسعَ المملكة إلى تغيير صورتها، ولم تعتمد الشفافية في قضية خاشقجي، أو تُحدِث انفراجةً في ملف حقوق الإنسان داخلها، كما لم تغيِّر من سياسة الأرض المحروقة التي تتبعها في اليمن.
وهنا يطرأ السؤال المهم: لماذا يصر قادة المملكة على الاستمرار في السياسة ذاتها التي أوصلتهم إلى العزلة التي فُرضت عليهم بعد جريمة قتل خاشقجي؟ هذه العزلة التي ما كان يمكن تخيُّل مدى القساوة التي ستصبح عليها، لولا إنقاذ الرئيس الأميركي دونالد ترامب بن سلمان حين منع الكونغرس الأميركي من ملاحقته وجلْبِه للمثول أمام القضاء، وربما تجريمه لمسؤوليته المباشرة عنها.
فبن سلمان، وعلى الرغم من كل ما لحق صورتَه من تردٍّ، يصرُّ على الاستمرار بملاحقة الإصلاحيين والمعارضين داخل المملكة وخارجها. ويستمر أيضاً بإقصاء المنافسين المحتملين، وكل من يعتقد أنه يشكِّل خطراً على مسيرة تولِّيه العرش بعد وفاة والده.
وكان آخر الضحايا، ابن عمه فهد بن تركي بن عبد العزيز، حين أقاله من منصب قائد القوات المشتركة في اليمن، كما أقال نجله عبد العزيز، من منصب نائب أمير منطقة الجوف بتهم فساد، ولينضموا إلى مُقالين عديدين من مناصبهم، وفي مقدمتهم ولي العهد السابق، محمد بن نايف.
وبالنسبة لموضوع الحرِّيات، قرّر بن سلمان المضي في سياسة القمع وقتل المعارضين على رؤوس الأشهاد، ما يدل على أنه لم يتعلم من قضية خاشقجي.
ويؤكد ذلك تدبيره محاولة اغتيال سعد الجبري، مستشار ولي العهد السابق، محمد بن نايف، وهي المحاولة التي أحبطها مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي، والتي اعتمد الجبري على حيثياتها في إقامة دعوى قضائيةٍ أمام القضاء الأميركي ضد بن سلمان ومساعدين له بتهمة محاولة اغتياله بطريقة مشابهة لطريقة استدراج خاشقجي واغتياله.
كما يستمر النظام في السعودية باعتقال المطالبين بالإصلاحات، ومنهم ناشطات وناشطو حقوق إنسان وأكاديميون ودعاة وغيرهم. ومن سخريات القدر اعتقاله الناشطة لجين الهذول التي كانت من المناديات بحق المرأة بقيادة السيارة، ومن المطالبات بالسماح لها بذلك، والتي اعتقلت على الرغم من تشريع هذا الحق.
يتغاضى نظام آل سعود عن حقيقة تلازم الإصلاحيْن، الاقتصادي والسياسي، وارتباطهما بالمسألة الاجتماعية التي من دون معالجة المشكلات التي تنضوي ضمنها سيكون أي بنيانٍ قابلاً للانهدام من داخله، مدفوعاً بسياسات بُناته المنقوصة، أو باحتجاجات أبناء البلاد الذين لم تراعِ عمليات الإصلاح متطلبات عيشهم الكريم في فضاءٍ من المساواة والعدالة والكرامة، فأي إصلاح اقتصادي، من قبيل ما طرحه بن سلمان في إطار “رؤية السعودية 2030″، يتطلب بيئةً مستقرّة سياسياً، يتعزّز فيها العمل بالقوانين والدستور، ويراعي الحريات العامة، والمشاركة في صنع القرارات ومراقبة مدى ارتكازها على القوانين والدستور، كما والارتكاز على الدستور في اعتماد محاربة الفساد والمحاسبة، إضافة إلى تبني شروط التنمية المستدامة في خطط الإصلاح.
لذلك كان تجاهل المسألة الاجتماعية، وربما تعمُّد تجاهلها، سبباً في تشييء قادة المملكة مواطنيها واستسهال استهدافهم بالقتل والقمع والتغييب، وبالتالي سبباً لجلب السخط الدولي الذي يتبدّى عزلاً للمملكة وقادتها، ووأداً لخطط ولي عهدها الجامحة.
لم يكن يخطر ببال بن سلمان، حين دبَّر محاولة اغتيال الجبري، أن القضاء الأميركي يمكن أن يصدر مذكرة استدعاء بحقه ليمثل أمامه، هو و13 شخصاً من مساعديه، بتهمة التخطيط لتنفيذها، فقد أصدرت المحكمة الفيدرالية في واشطن أمر استدعاء قضائي بحقهم جميعاً ليمثلوا أمامها، ويبدو هنا أن فرص التملّص من هذه الجريمة قليلة، مقارنة بالفرص التي أتيحت له للتملّص من جريمة خاشقجي.
كما لم يخطر في بال بن سلمان أن ما أصبح عليه أبناء البلاد بعد توليه الحكم، واتِّباعه سياسة القمع، لا يمكنهم أن يظلوا عليه إلى ما شاء الله. لذلك شهدنا، في الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، إعلان قيام حزب التجمع الوطني، في الخارج “الذي يهدف إلى ترسيخ الديمقراطية في نظام الحكم”.
وكذلك إطلاق منظمة “الديمقراطية للعالم العربي الآن”، وهي الكيان الذي كان خاشقجي نفسه يخطّط لتأسيسه قبل رحيله، وبعد أن رأى أن لا استقرار في المنطقة العربية من دون إطلاق الحريات الشخصية والحريات الإعلامية وصون كرامة الإنسان فيها. وهذه مبادراتٌ لم تكن لتوجد لولا سياسة تجاهل دعوات الإصلاح، والمضي في سياسة الإقصاء التي اتبعها بن سلمان، ليصبح صاحب القرار الأوحد، في زمنٍ أصبح أبناء بلده أكثر توقاً للانعتاق.