يجرد آل سعود قبائل المملكة من أي حقوق لاسيما المشاركة السياسية أو إيجاد مساحة مستقلة ديمقراطية كنظام برلماني منتخب يستوعب عن طريق الاقتراع الحر مثل هذه المجموعات القبلية، فيما يتورط باعتماد وسائل خبيثة بالتمييز القبلي لضمان ضرب صفوف القبائل وعدم توحدهم ضد النظام.
وهذه المساحة هي وحدها الكفيلة ليس فقط بإيجاد فرصة للمشاركة السياسية بل هي أيضا الخطوة الاولي لتحديث القبيلة وقيادتها حيث تخضع قيادة القبيلة نفسها للانتخاب وتتبعثر عن النمط الوراثي المعهود تقليديا.
في المملكة كانت هناك تجربة مختلفة الى حدّ كبير عن غيرها، فهي دولة لم يطأها المستعمرون الغربيون، ولم تنشأ أجهزتها عبرهم، كما هو الحال في كل دول الشرق الأوسط العربية، وهي ـ وإن كان البريطانيون قد ساهموا سياسياً ومالياً في ظهورها ـ فقد اتخذت سياسات مختلفة تجاه القبيلة بناء على تجربتها الخاصة بها.
فالمملكة هي الدولة الوحيدة التي كان للقبائل دور بارز ومركزي في نشأتها من الناحية العسكرية عبر مشروع الإخوان وتوطينهم في (الهجر).
في العادة تنشأ السلطة المركزية أو أنويتها في مركز حضري ثم تتوسع تلك السلطة وتتعزز بخلق الأجهزة الأمنية والعسكرية وتمدّ سلطانها الى خارج المراكز الحضرية لتصل الى القبائل في الصحراء فتتصارع معهم وتخضعهم وتجذبهم اليها. أما في المملكة، فإن الذي حدث شيئاً معاكساً تقريباً.
فقد نشأت السلطة في مركز شديد التصدع سياسياً، ولم يكن كثيف السكان، ولا يحمل أهمية استراتيجية من نوع ما.
وكانت المشكلة التي واجهت هذا المركز (الرياض ـ نجد) هي الامتداد وإخضاع المراكز الدينية الأكثر أهمية في الشرق والغرب (الأحساء والقطيف والحجاز) بشكل خاص، عبر التوسع والاحتلال العسكري.
وحقيقة أن القبيلة في المملكة كانت أحد ثلاثة أطراف وقع عليها عبء تشكيل الدولة السعودية الحديثة: رجال المذهب الوهابي، والعائلة المالكة، والقبائل النجدية بشكل أساس. الطرف الأول وفّر الغطاء الديني القادر على الحشد والإطار الأيديولوجي للتوسّع، أما الطرف الثاني فقد مثل القيادة السياسية الواعية بمهامها وأهدافها، في حين أن الطرف الثالث شكّل وقود الحرب، والجيش الذي اقتحم الكيانات الأخرى الأكثر نضجاً فاقتلعها من الجذور.
وتمر العلاقة بين آل سعود والقبائل التي تقطن الجزيرة العربية بمرحلة حرجة، اهم ملامحها بروز قيادات قبلية تقليدية وتاريخية علي الساحة من جديد ليس لتجديد الولاء للأسرة الحاكمة السعودية بل لتعلن معارضتها علي مسيرة الحكم وانفضاضها عن النظام.
منذ صيف عام 2006 خرجت أربعة شخصيات معلنة معارضتها للنظام من خلال منبر قناة الإصلاح والتي يديرها سعد الفقيه من لندن.
وقد كان من الممكن لهذه الشخصيات أن تنشئ منابر جديدة لها ولكنها آثرت الانضواء تحت خيمة واحدة وربما يرجع السبب إلى كون هذه القيادات لا ترغب أن تصورها الآلة الإعلامية الرسمية وكأنها قيادات تطمح لاستعادة أمجاد قبائلها أو حكمها في مناطق مختلفة من الجزيرة العربية بل تصبو للانضواء تحت منبر واحد يعطيها الزخم المرجو ويبعد عنها صفة الفئوية او القبلية الضيقة.
من هذه الشخصيات طلال الرشيد والذي له بعد في قبيلة شمر القاطنة في شمال الجزيرة العربية وتمتد إلى مناطق في سورية والعراق والأردن وبعض دول الخليج.
والشخصية الثانية هي ممدوح الشعلان من قبيلة عنزة والتي تدعي الأسرة الحاكمة الانتماء إليها وهي قبيلة أيضا ذات بعد جغرافي واسع في الشمال السعودي وسوريا والأردن.
وثالث هؤلاء مساعد الذويبي من قبيلة حرب الحجازية والتي هي أيضا تمتد إلى مناطق شمالية. ومؤخرا ظهر فيصل الحثلين من قبيلة العجمان والتي تمتد مساحتها التاريخية من وسط الجزيرة العربية إلى مناطق الخليج وخاصة الكويت.
والغريب في الأمر أن معظـم هؤلاء المتبرئين من نظام أل سعود يرتبطون بعلاقات مصاهرة مع افراد بارزين في الاسرة السعودية فكثير من نسائهم قد تزوجن في السابق من الملك عبد العزيز وأبنائه وليسوا من المعدومين الباحثين عن حصص جديدة من الطفرة النفطية الحالية.
وليس من الصدفة أن ينتمي هؤلاء الي مجموعات قبلية كانت في السابق من اشد المعارضين لفرض هيمنة آل سعود على مناطق الجزيرة المختلفة، فقبيلة العجمان كانت لها صولات وجولات في مطلع القرن العشرين مع آل سعود وقد أدت المعارك الطاحنة حينها الي قتل سعد بن عبد الرحمن آل سعود اخ الملك عبد العزيز، بالإضافة الي فهد بن جلوي وهو من العائلة ذاتها.
أما قبيلة شمر فتاريخ صدامها مع النظام السعودي معروف وطويل يمتد إلى القرن الثامن عشر حينما أدي هذا الصدام إلى هجرة فروع من القبيلة إلى سورية والعراق وما تبقي من القبيلة في الجزيرة العربية واصل المواجهة حتي عام 1921 والتي انتهت بزوال امارة حايل وانضمامها الي الدولة السعودية. وكذلك الشعلان الذين لم تنته سلطتهم علي الجوف الا بعد مواجهات مع نظام آل سعود.
اتبع هذا النظام أسلوبين معروفين في شق صفوف القبيلة. الاول هو الباس التوسع السعودي عباءة الدين مما أدي إلى تبني بعض المجموعات القبلية هذا الخطاب من أجل تجييشها في سبيل المشروع السعودي وحربها بعضها لبعض حتي فقدت لحمتها.
والأسلوب الثاني يقوم على استغلال نظام آل سعود كون القيادة في قبيلة ما تكون عادة في بيت معين له تشعبات نسبية كثيرة فكان النظام يقتنص بعض الافراد من هذه البيوت ويجعل المشيخة أو إمارة القبيلة فيها مما يؤدي إلى تشظي البيوت ذات القيادة التاريخية.
وبعد تطويع هذه البيوت أو الأفراد فيها استعمل نظام آل سعود سياسة الزيجات الهادفة والتي تربط العائلة السعودية ببعض الفروع في بيوت المشايخ القبلية.
ومع قيام الدولة وتشعب مؤسساتها وجد هؤلاء أنفسهم خارج إطار الدولة الحديثة ورغم أن بعض القبائل تم احتواؤها عن طريق مؤسسات عسكرية أولها جيش المجاهدين إلا أن اندماج بعض القبائل ذات العداوة التاريخية مع نظام آل سعود قد تأخر بسبب عدم وجود الثقة المتبادلة.
وقد انفجرت الصراعات بين آل سعود وأكثر القبائل ولاء للمشروع السعودي وخاصة قبيلتي عتيبة ومطير واللتين كانتا الركيزة الاساسية التي اعتمد عليها نظام آل سعود لنشر هيمنته على أكثر المناطق حيوية بالنسبة لمشروعه وهي الحجاز ومنطقة حائل.
وبعد أن ضمن آل سعود سيطرتهم علي هذه المناطق عمدوا إلى تصفية أهم الشخصيات التي لعبت دورا مركزيا في بسط الهيمنة لهم. واليوم هناك سخط كبير ضد سياسة التمييز الرسمي بين القبائل، كما ضد تمييز القبائل ضد سكان المدن.
المملكة بلد التمييز الرسمي والتناقضات الحادّة، ليس فقط على الصعيد الطائفي: شيعة وسنة وسلفيين وهابيين، وليس فقط على الصعيد المناطقي، بل على الصعيد القبلي أيضاً.
فهناك قبائل مغضوب عليها تحدّت سلطان آل سعود وحاربتهم، فحرمتهم من تبوّأ مناصب مهمة في الجيش أو الحرس أو حتى في البيروقراطية الرسمية.
ومن اجل تمتين العلاقات بين رموز الحكم وهذه المجموعات خصص النظام السعودي لأفرادها وخاصة المرتبطين بعلاقات نسبية مع النظام مخصصات شهرية اعتبرها الكثير منهم تعويضات عن ما نهبه النظام من اموالهم وممتلكاتهم وديارهم خاصة بعد أن ألغى النظام حقهم في استعمال مواردهم في ديارهم التاريخية والمناطق الجغرافية التي كانت تحت سيطرتهم.