تتواتر التقارير الصحفية والإعلامية التي تسلط الضوء على حجم الانفتاح والتحرر الطارئ على المملكة، ولا سيما فيما يتعلق بحقوق النساء، وسط تحفظات واسعة تجاه هذه التغييرات غير المسبوقة.
وبالرغم من ذلك، يري مراقبون أن هذا الاتجاه التحرري يأتي في إطار مساعي ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان”؛ لإصلاح صورته الشخصية ونظرة العالم للمملكة بعد أن شوهتها حرب اليمن ومقتل الصحفي “جمال خاشقجي” واعتقال الناشطات ورجال الدين، مؤكدين أن هذا التحرر سيظل معايرا ومحسوبا شريطة ألا يؤدي إلى أي مطالبات ديمقراطية.
نساء خلف المقود، ومواعدة بين الشباب والفتيات، وسياح أجانب، وفعاليات ترفيهية مختلطة، ونساء يدخن الشيشة وغياب هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بكل هذه المظاهر أصبحت المملكة تشبه الدول الغربية بشكل لم يكن من الممكن تصوره قبل 3 أعوام فقط.
وخلال الفترة الماضية، نشرت صحيفتا “اليابان تايمز” و”هآرتس” تقارير عبر مراسليها الذين زاروا الرياض وغيرها من المدن السعودية ووثقوا المتغيرات الكبيرة الجارية في المملكة.
وتحت عنوان “السعوديات يدخن في الأماكن العامة لإكمال حريتهن المستحدثة”، التقت صحيفة “اليابان تايمز” بسعودية في أواخر العشرينات تدعي “ريما” والتي كانت تدخن السجائر الإلكترونية في مقهى في الرياض وتخرج سحابة من الدخان.
وتقول “ريما” التي تعمل في شركة في العاصمة الرياض إنها تشعر أن التدخين في الأماكن العامة جزء من ممارسة الحرية التي اكتسبتها السعوديات حديثا، مبدية سعادتها بأنه يمكنها الاختيار.
وأشارت الصحيفة اليابانية إلى أن رؤية النساء المدخنات أصبحت أكثر شيوعا في الأشهر الأخيرة، مضيفة أن ذلك جاء ضمن حزمة من الإصلاحات غير المسبوقة التي أدخلها ولي العهد “محمد بن سلمان” لأسباب اقتصادية وسياسية.
ونقلت الصحيفة عن نادل لبناني في مقهى شهير شمال الرياض قوله إن غالبية الزبائن من النساء، مؤكدا أن الأمر لم يكن ليحدث قبل 3 أشهر فقط.
يؤكد ذلك ما جاء في تقرير لـ”تمارا برييز” مراسلة صحيفة “هآرتس” العبرية التي أمضت شهرا كاملا في المملكة رصدت خلاله الكثير من المتغيرات، وأجرت لقاءات مع الكثير من السعوديين والسعوديات من بينهم متطوعون في الهيئة العامة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ونقلت صحيفة “اليابان تايمز”، عن “نجلاء” (26 عاما) قولها إنه رغم التغييرات الاجتماعية إلا أنه لا يزال هناك ازدواجية في المعايير ولا يزال البعض يعتبر أن تدخين النساء للشيشة “فضيحة وعار”، وقال إنها الوحيدة التي تشعل الشيشة وسط العديد من الطاولات في المقهى، وأنها “تريد أن تتحدي المجتمع للحصول على كامل حقوقها”.
ورغم هذه الإصلاحات المزعومة، أشارت الصحيفة إلى أن المملكة لا تزال تتعرض للانتقادات لقيامها بممارسات قمعية بحق المعارضين بما في ذلك الناشطات والعلماء والمثقفون، حيث اعتقلت في عام 2018 ما لا يقل عن 12 ناشطة قبل رفع الحظر التاريخي عن قيادة المرأة للسيارة، مشيرة إلي أن الكثير من المعتقلات اتهموا المحققين بالتحرش بهن جنسيا وتعذيبهن.
ونقلت الصحيفة عن “وليد الهذلول” شقيق “لجين الهذلول” التي تتم محاكمتها بتهم الاتصال بوسائل إعلام أجنبية ودبلوماسيين أجانب، قوله إنه لا يشك أن هناك مستوى أكبر من الحرية، ولكن هذه الإصلاحات المتعلقة بالمرأة “جزء من حملة علاقات عامة لتحسين سجل المملكة في حقوق الانسان”.
بدورها قالت صحيفة “هآرتس” إن دوافع ولي العهد لإدخال تلك التغيرات في المجتمع السعودي ليست بالضرورة رغبة منه لتحريك البلد باتجاه الديمقراطية أو حتى إثارة الآمال بتحقيقها في المستقبل.
وقالت الصحيفة إن السبب الرئيسي للتغييرات المتسارعة هو رغبة الحاكم الفعلي للمملكة “محمد بن سلمان” في إعادة تجميل صورته وصورة بلاده اللتين تم تشويههما بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة بسبب التورط في الحرب باليمن واغتيال الصحفي “جمال خاشقجي”.
وذكرت الصحيفة أنه على الرغم من تلك التغيرات العميقة في المجتمع الا أنه لا يزال هناك من يخشى العقاب، فيما يذكر البعض أن القمع مستمر، ولكن بشكل غير مرئي في كثير من أحيان.
وربما يجسد ذلك ما جرى لمغنية الراب “أصايل” بعد أيام من إطلاقها أغنية الراب “بنت مكة”، حيث أعلنت السلطات في مكة إيقاف المسؤولين عن الأغنية.
وقال حساب الإمارة في تويتر فإن أمير مكة “خالد الفيصل” وجه بـ”إيقاف المسؤولين عن إنتاج فيديو أغنية الراب (بنت مكة) الذي يسيء لعادات وتقاليد أهالي مكة ويتنافى مع هوية وتقاليد أبنائها الرفيعة، ما يظهر مدى التردد والازدواج في سياسات التحرر الاجتماعي في المملكة.
من جانبهم، اعتبر الكثير من السعوديين خطوة إيقاف “بنت مكة” -أعلنت لاحقا أن التحقيق معها تم لأسباب إدارية- من قبل المملكة بمثابة ازدواج واضح للمعايير حيث ما قدمته المغنية السعودية لا يختلف كثيرا عما يقدمه المغنيون الأجانب الذين تأتي بهم هيئة الترفيه بالملكة، مستشهدين بدعوة المملكة للمغنية “نيكي ميناج” التي رفضت تلبية الدعوة احتجاجا على قمع الرياض للناشطات، وكذا دعوة “سعد المجرد” المتهم بارتكاب جرائم تحرش جنسي واغتصاب.
ويرى مراقبون أن أسبابا غزيرة تصنع أهمية كبرى للصخب الواسع الذي احتدّ، أخيرا، في المملكة، بعد نشر أصايل منتصف الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، أغنية راب على “يوتيوب” اسمُها “بنت من مكّة”، وفاقت مشاهداتها المائة الألف في أسبوع.
ولا ترجع هذه الأهمية فقط إلى انقسامٍ ظاهرٍ بين ساخطين ضد الأغنية ومدافعين عن حق الشابّة، والفتية والفتيات الصغار معها، في تأديتها، ولا لأن أمير منطقة مكّة المكرمة، خالد الفيصل، أمر بالتحقيق مع هؤلاء، واعتقال منتجي الأغنية التي اعتبرها إهانةً لعادات أهل مكّة وتقاليدها، الأمر الذي دانته الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، ورأته سلوكا “يفضح سياسة الكيل بمكيالين”.
وإنما الأهمية المؤشّر إليها في أنه صار للزمن السعودي الراهن إيقاعه الآخر، المضادّ لما أقامت عليه المملكة طويلا، الأمر الذي يعود إلى النفوذ الثقيل الذي تحقّق لمنصّات التواصل الاجتماعي وللإعلام الرقمي، ما أتاح ابتداءً قوة الإحساس بالفردانية والثقة بالذات لدى المواطن السعودي، عندما يجد لنفسِه مساحاتٍ مفتوحةً، وحرّةً إلى حد كبير، للتعبير عن نفسه، وللأخذ والرد.
وفي هذا السياق، لم يعد في وسع السلطة الحاكمة والنافذة، أن تكون الوحيدة في الفضاء الإعلامي العام، وأن يكون خطابُها وحده الحاضر دون سواه. وقيمة هذا الاعتبار هنا في أنه يتعلق بالسعودية التي غلب فيها نمطٌ خاصٌ من الاحتباس الخانق في قنوات التعبير عن الرأي، وظلّ يتفوق على ما في دول الجوار الخليجي، وعلى العموم العربي.
طيب هذا الخلاف في وسومات وهاشتاغات كثيرة، اعتبر واحدها أن “بنت من مكّة” تُمثّل المشاركين فيه، فيما جهر آخر بأنها لا تمثل أيا ممن فيه. وطيّبٌ أن مثقفين وكتّابا سعوديين أشهروا امتعاضا محقّا من تعبيراتٍ عنصريةٍ مقيتةٍ ذاعت بشأن الشابة التي أدّت الأغنية، لسُمرة بشرتها.
وطيب أيضا أن كاتبا سعوديا دعا إلى ترك الجميع “يتنفسّون”، سيما وأن الأغنية لم تتضمن أي سوء. وحسنا فعل المعلقون الذين كتبوا إن جيل الإنترنت في المملكة لا يقبل الوصاية، وله أساليبه الخاصة في التعبير عن ذاته.
وغريبٌ أن يصل الغضب من الشابة أصايل إلى مطالبة بعضهم بتطبيق عقوبة السجن خمس سنوات والغرامة الباهظة عليها، بدعوى “جرأة إجرامية” اقترفتْها، فيما الأغنية تعتز بمكّة وبناتها اللواتي يتحلين بالعلم والجمال والكرم.
ويحسُن أن يتذكّر الجميع أن مغنية الراب الأميركية، نيكي مناج، دُعيت للغناء في جدّة، وكانت حفلتها مقرّرة في يوليو/ تموز الماضي، قبل أن تلغيها المغنية نفسها، تضامناً مع “حقوق المرأة والمثليين وحرية التعبير”، على ما قالت.
وفي البال أيضا أن هناك فرقة راب اسمُها “عيال مكّة”، وأن أغنية راب ذاعت اسمها “مكّة حقنا”، واستضافت قنوات تلفزيونية سعوديةٌ مغنيها. وكان الكاتب السعودي، علي فقندس، قد نشر في مقالة في مجلة الفيصل السعودية، أسماء 15 مغنية (سمّت إحداهن نفسها كاكا) كن في مكة المكرمة وحدها في الستينيات والسبعينات، وأن المدينة ذات المكانة المقدسة عرفت ظاهرة الأسر والعوائل الفنية.
وتعبر المملكة حاليا في انعطافتها الراهنة، بدفع معلوم من ولي العهد محمد بن سلمان، إلى إيقاع انفتاحي يأخذ بأسباب الترفيه، ويتعامل بأريحية مع الموسيقى والغناء، مع عدم إغفال الاعتقالات النشطة لدعاة ونساء إصلاحيات وعلماء وناشطين ومدوّنين، فإن تأدية شابّةٍ أغنيةَ راب، في مكّة كما في غيرها من مدن المملكة، وتصويرها الأغنية في مقهى، وبثّها في فضاء الإنترنت الفسيح، لا تصبح أمرا مفاجئا.