لم يكن قرار الإمارات سحب قواتها العاملة في اليمن سوى حلقة من سلسلة التصدعات والخلافات التي ضربت تحالف الرياض والقاهرة وأبو ظبي أو ما عرف لاحقاً بمثلث الشر العربي.
فعلى الرغم من أن قرار الإمارات الانسحاب من اليمن جاء صادماً في شكله، غامضاً في أهدافه وغاياته، ومفتقراً إلى أدنى درجات التنسيق مع الحلفاء المفترضين في تنفيذه، إلا أنه في حقيقة الأمر لم يخرج عن الإطار العام الذي وسم تحالف مثلث الشر الذي بلغت فيه التباينات في المصالح والاستراتيجيات حد التضاد في كثير من الأحداث، بينما كان القضاء على ثورات الربيع في مواطنها هو المشترك الوحيد الذي بالكاد جمع متناقضات المصالح السعودية والمصرية والإماراتية.
ولم تكن سيطرة المجلس الانتقالي في الجنوب اليمني على عدن سوى حلقة جديدة من حلقات التصدع الذي أصاب التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن.
ذلك أن من انقلب على الشرعية المعترف بها دولياً هي قوات محسوبة ومدعومة من الإمارات الحليف المفترض لآل سعود والشريك في التحالف العربي الذي تقوده المملكة نفسها.
وبغض النظر عن موقف السعودية من الانقلاب الذي بقي حتى اللحظة رخواً وفضفاضاً، فإن التزامن الغريب بين سحب أبوظبي قواتها من اليمن وسيطرة المجلس الانتقالي وقوات الحزام الأمني على العاصمة المؤقتة للشرعية يشي بتناقض فاضح بين استراتيجية آل سعود الرامية إلى تقويض قوة الحوثيين وحماية حدودها الجنوبية من خطر حلفاء إيران، وبين الاستراتيجية الإماراتية التي كشفت الأحداث المتعاقبة أنها تتمحور حول خلق مراكز قوى مستدامة تابعة لها ومؤتمرة بأمرها ومنفصلة بل وحتى معادية للحكومة الشرعية وأهدافها المعلنة في القضاء على تمرد الحوثي والحفاظ على تماسك اليمن ووحدة ترابه.
لم ينحصر تصادم آل سعود الإماراتي في الملف اليمني فحسب، بل تعداه ليشمل ملفات أخرى كان أكثرها وضوحاً وخطورة هو ذاك المتعلق بإيران وأزمة أمن الملاحة عبر مضيق هرمز ومياه الخليج العربي.
ففي الوقت الذي أبدت في الرياض مواقف متشددة حيال الجمهورية الإسلامية وعملت جاهدة على حشد المواقف الدولية لإدانتها ومعاقبتها بتشديد الحصار الاقتصادي عليها، كانت أبوظبي تهرول في الاتجاه المعاكس صوب إيران مبدية رغبتها في تحسين العلاقات وتجاوز الخلافات معها.
أثمر ذلك عن لقاءات بين مسؤولي البلدين نتج عنها تفاهمات حول أمن الملاحة وإلغاء القيود المفروضة على التجار الإيرانيين من قبل المصارف الإماراتية.
الخليج يضرب والسيسي يتفرج
أثار موقف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي المتفرج على ما تتعرض له المملكة والأمارات من خروقات حوثية الكثير من التساؤلات حول جدية الرجل في تنفيذ وعوده بحماية الأمن الخليجي من أي خطر قد يهدده.
فقد ظهر جلياً أن “مسافة السكة” أطول بكثير مما تخيله آل سعود وأن “أمن الخليج من أمن مصر” لا تعدو عن كونها عبارة يكررها الرئيس المصري على سبيل الابتزاز كلما احتاج إلى بعض “الرز الخليجي”.
دفع ذلك الكثير من المراقبين للتساؤل عن كيفية وتوقيت تحرك مصر لحماية أشقائها الخليجيين وهي التي لم تتحرك لاحتلال الحوثي أراض في جنوب المملكة، ولا لقصف المملكة بعشرات الصواريخ البالستية، ولا لاستهداف مطار أبوظبي بطائرة مسيرة، ولا لتفجير ناقلات نفط قبالة السواحل الإماراتية وتهديد الملاحة في الخليج، ولا حتى لضرب أنبوب النفط الرئيسي الذي يصل شرق المملكة بغربها.
بغض النظر عن الاختلاف في تقييم مدى نجاعة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي يروج لها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ومراوحة وصفها بين الصادمة والملحة، فإن الثابت فيها أنها تشكل تهديداً مباشراً للمكانة الاقتصادية لدولة الإمارات العربية المتحدة وبخاصة لإمارة دبي التي طالما وصفت بأنها الأكثر انفتاحاً وجذباً للاستثمارات من مثيلاتها في الخليج العربي.
فقد بدا واضحاً أن الإمارات تنظر بكثير من الريبة والقلق إزاء خطط ابن سلمان في جعل المملكة مقصداً سياحياً وبيئة استثمارية جاذبة لرؤوس الأموال التي فقدت الثقة جزئياً أو كلياً بالإمارات وخاصة إبان الأزمة المالية الخانقة التي ضربتها والتي مازالت مفاعيلها تسري حتى يومنا هذا.
ولا شك أن تأسيس دور للسينما والسماح بإقامة حفلات غنائية ومهرجانات عالمية واعتماد الترفيه كمصدر للدخل القومي في المملكة سيحرم الإمارات من أهم امتيازاتها التي طالما استقطبت بموجبها مواطني مجلس التعاون الخليجي.
لكن الخطر الأكبر الذي تخشاه الأمارات هو مدينة نيوم السعودية ومينائها الذي من شأنه حين اكتماله أن يحول جزءاً كبيراً من التجارة العالمية صوب البحر الأحمر ما يشكل ضربة كبيرة لموانئ دبي التي توصف بأنها الذراع الاقتصادية الضاربة للإمارات العربية المتحدة.
وفي مقابل التراخي الذي وسم الدور المصري حيال التهديد المتكرر للأمن القومي الخليجي واستنكاف الرئيس المصري عن تنفيذ وعوده المتكررة بالتصدي لمحاولات زعزعة استقرار السعودية، أوقفت الرياض منذ مطلع عام ٢٠١٨ معظم أشكال الدعم الاقتصادي للقاهرة فيما بدا أنه إجراء عقابي يراد منه إيصال رسالة للسيسي مفادها أن صبر السعودية حيال وعوده الكاذبة قد نفذ، وأن تغليف ابتزاز الدعم بمعسول الكلام لم يعد يجدي، وأن “الرز الخليجي” ينتظر أفعالاً على الأرض لا أقوالاً في الهواء.
ما بني على باطل فهو باطل، وزارع الشوك لا يحصد ألا الأذى. وأما نيران الشر فإنها تأتي أول ما تأتي على مضرميها. ذلك هو حال تحالف لم يكن ليجمعه شيء سوى خوف مشترك من ربيع أزهر فأعمل فيه حرقاً، ومن حرية حلمت بها شعوب مقموعة فأراد وأدها، ومن أصوات حرة تعالت فسارع إلى خنقها. ذلك هو ما جمع آل سعود والإمارات ومصر.
وأما ما فرقهم فهي مصالحهم التي أظهرت الأحداث حجم تناقضها وتباعدها وتحولها إلى وقود لصراع خفي بينهم خرجت بداياته جلية إلى العلن، ولا ندري كيف ستكون نهاياته.