تآكل اقتصادي غير مسبوق يهدد المملكة ومكانتها
يرى مختصون في الشأن الاقتصادي أن تداعيات سلبية ضخمة ستترتب على اقتصاد المملكة بما في ذلك تقليص ثقة المستثمرين الأجانب بعد الهجوم الأخير من جماعة أنصار الله “الحوثيين” على منشآتي نفط شرق المملكة.
ولعلّ هذا الحدث الخطير أن يكون الدافع الأهمَّ لإعادة النظر في سياسة المملكة، المعتمدة بقدر كبير على علاقاتها بالولايات المتحدة.
وإنْ تعرّضت تلك العلاقة للتساؤل والتخوّف، سابقاً، كما، مثلاً، بعد تخلّي واشنطن عن حليفها الأكثر أهميّةً عربياً، الرئيس المصري المخلوع، حسني مبارك، بعد أن لم يعد من المفيد الدفاع عنه، أمام ثورة الشعب المصري عليه.
وبغضِّ النظر عن الجهة التي نفّذته، الحوثيون أم إيران، فقد كشف الهجوم عن خلل كبير في السياسة الدفاعية، إذ أظهر المُقدَّرات البالغة الحيوية في المملكة من دون غطاء، وأصبح بالإمكان توقُّع مزيد من الاستهدافات المماثلة، على الرغم من انفاق نظام آل سعود الكبير على التسلُّح، وبالذات من الولايات المتحدة؛ فقد أنفقت في عام 2018 ما قيمته 67.6 مليار دولار على الأسلحة، في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة والصين.
كما ترك الهجوم خيبةً كبيرة إلى الآن من التعاطي الأميركي، حتى في عهد الرئيس دونالد ترامب الذي احتفت به الرياض كثيراً وعوّلت عليه، في تحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة.
ولا يخفى أن المملكة لا تكتسب مكانتها عربياً وإسلامياً من حجمها الاقتصادي فقط وقد بات هذا في تآكُلٍ خطير بعد التورُّط في حرب اليمن، حتى إنها اعترفت بصعوبات مالية.
إذ قال وزير المالية محمد الجدعان “إن النموَّ الاقتصادي السعودي في 2019 سيكون أقلَّ كثيراً مما توقّعته المملكة؛ بسبب تخفيضات إنتاج النفط, وأضاف أن بلاده ستطرق سوق الديون العالمية، على الأرجح قبل نهاية العام”.
كما أن المملكة لا تكتسب هيبتها من حجم تسلُّحها، مع أنها تواجه فشلاً في مواجهتها الحوثيين في اليمن، يزداد إلى أن تصبح في موقف دفاعي.
وإنما تكتسب احترامها والالتفاف العربي والإسلامي معها، من تمثّلها الأبعاد الجامعة، ومن أهمِّها، شعبياً، الموقف من نصرة الشعوب العربية، في حقوقها، والموقف من فلسطين، بوصفها القضية الجامعة، في الوجدان العربي والإسلامي.
أما الموقف من حقوق الشعوب العربية فلم تنجح فيه المملكة، ولو ظاهرياً، حين آثَرت الوقوف، علناً، مع الطغاة العرب، ودعم الثورات المضادّة، كما في استضافتها الرئيس المخلوع، زين العابدين بن علي، وكما في وقوفها إلى جانب نظام مبارك، ثم دعمها الكبير عبد الفتاح السيسي الذي وصل إلى الحكم، بانقلاب دموي، ثم استمرَّ في حكم مصر، بالخوف والترهيب، وكذلك في دعمها الجنرال خليفة حفتر في ليبيا.
ولم يكن الموقف من القضية الفلسطينية بالمأمول، إذ هي، في أقلِّ التوصيفات، سمحت لشخصياتٍ سعودية محسوبة على الدولة بالتطبيع مع دولة الاحتلال، كضابط المخابرات السعودي السابق، اللواء أنور عشقي، الذي وفْقاً للمتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية، زار إسرائيل، والتقى المسؤول في وزارة الخارجية الإسرائيلية دوري غولد، في القدس المحتلة.
وقد رأى الزائر في إسرائيل عدوّاً مظنوناً، مقابل إيران العدوِّ المضمون.
وسمحت المملكة لكُتّاب وإعلامِّيين كثُر بالجهر بالدعوة إلى التطبيع مع إسرائيل، وعقد لقاءات مع قادة الاحتلال، كما في زيارة المدوّن السعودي، محمد سعود، الاستفزازية إلى المسجد الأقصى، بدعوة من وزارة خارجية الاحتلال، وكان ضمن وفدٍ ضمّ ستّة صحافيين عرب، التقَوْا نتنياهو.
وليس الأهم هنا مكانة هذا الشخص، ولكن في دلالته، وفي السكوت عنه، رسمياً.
وذلك كله فضلاً عن تصريحات واضحة من ولي العهد، محمد بن سلمان، في مقابلته مع مجلة ذي أتلانتيك الأميركية؛ فحين سُئِل عمَّا إذا كان يرى أنَّ “الشعب اليهودي لديه الحقّ في أن تكون له دولة قومية، فوق جزء من أرض أجداده على الأقل؟”، أجاب: “أعتقد أن لكلّ شعب، في أيِّ مكان كان، الحقّ في أن يعيش في وطنه بسلام.
أعتقد أن للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي الحقّ في أن تكون لكل منهما أرضه”. وأضاف: “إسرائيل اقتصاد كبير مقارنة بحجمها واقتصادها، ينمو بقوة.
بالطبع هناك مصالح كثيرة نتقاسمها مع إسرائيل”. هذا المناخ العام الممهِّد للتطبيع الرسمي مع إسرائيل، يحدث حتى في توقيت هو الأسوأ، حيث يستبدّ اليمين الصهيوني المتطرّف والعنصري بما تبقّى من فلسطين، استيطاناً وتهويداً، وضمّاً.
وقد يكون الموقف اللافت من الملك سلمان بن عبد العزيز، من إعلان رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، عزمه، في حال نجح في تشكيل حكومة جديدة، ضمّ منطقة الأغوار وشمالي البحر الميِّت، والتي تمثل نحو 30% من الضفة الغربية، قد تكون أقواله إن الخطوة باطلة وملغاة، وإنْ لم تُتبَع بأيّ تحوُّلات عملية، محاولةً لاسترداد بعض التوازن الضروري إزاء مقادير المبالغة والاستهتار التي ذهب إليها نتنياهو.
ولم تنفرد الرياض، بالطبع، بهذا الموقف، بل جاء ضمن ردة فعل شبه شاملة، إذا استثنينا الولايات المتحدة، وحتى إنها لم تعلن موافقة صريحة على تصريحات نتنياهو.
وفي مقابل صورة المملكة التي تبدو أقرب إلى الامتثال للرؤية الأميركية للصراع الدائر في فلسطين، وعليها، تبدو إيران بصورة الداعم لحركات فلسطينية مقاومة، لعل أهمَّها حركتا حماس والجهاد الإسلامي.
وبقدر ما تضرّ السعوديةَ تلك الصورة، غير الداعمة، على الأقل حقّ الفلسطينيين بالردّ على الاعتداءات الاحتلالية اليومية، وأحياناً المعادية، كما في اعتقال قيادات وكوادر من “حماس” يقيمون في السعودية، أبرزهم محمد صالح الخضري (81 عاماً)، المسؤول عن إدارة العلاقة مع المملكة على مدى عقدين، فإن إيران تنتفع، وتوظّف صورتها الداعمة لحركات فلسطينية مقاومة، ليس من منطلق طائفي، كما تقول.
هذه السياسة القائمة على إيثار متانة العلاقات مع الولايات المتحدة، وبالتَّبَع، عدم معاداة إسرائيل، أو الوقوف الجِدّي، في وجه صفقة القرن الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية، لم تنفع كثيراً في أحلك الظروف التي تمرّ فيها المملكة، بل إنها أضعفت ركيزةً قوية من ركائز قوّتها السعودية، وربما جرّأت إيران أكثر على استهدافها.
كما أن وقوف الرياض في وجه آمال الشعوب العربية بالتغيير الأفضل، ومساندة الطغاة من الحكام، يُضعف من الالتفاف الشعبي العربي معها.