أطفال بلا وطن: تحقيق يكشف مأساة أبناء عاملات المنازل في السعودية

في قلب العاصمة السعودية، وعلى جزيرةٍ إسفلتية قرب محطة وقود، ينام أطفال صغار إلى جوار أمهاتهم العاملات الإفريقيات، بلا هويةٍ ولا وطنٍ ولا مأوى.
هؤلاء الأطفال هم الوجه المنسي لسياسات العمالة المنزلية في السعودية — ضحايا نظامٍ قانوني وديني يُجرّم الأمهات ويُخفي الأطفال خلف ستار “العيب”، بينما تتعالى الأصوات الدولية مطالبة بمحاسبة المملكة على انتهاكاتها ضد العاملات المهاجرات وأبنائهن.
في المشهد الذي وثقته صحيفة نيويورك تايمز، تتكرر الوجوه نفسها: داليا ذات الثمانية أعوام التي تعلمت الإنجليزية من “يوتيوب”، الرضيع أبودي الذي وُلد قبل أيام قليلة، وأمهاتهم الكينيات اللواتي جئن بحثًا عن لقمة العيش، فوجدن أنفسهن مطارداتٍ بالقانون، ومحاصراتٍ بالعار.
وفي بلدٍ يُعتبر فيه الحمل خارج الزواج جريمةً قد تُفضي إلى السجن، تصبح الأمومة كارثة اجتماعية وقانونية. هؤلاء النسوة — عاملات منازل تعرضن للإساءة والاستغلال — لم يعد لهن طريق للعودة إلى أوطانهن.
فالسعودية ترفض منح أطفالهن وثائق ميلاد، وكينيا تتنصّل من مسؤوليتها، ليُترك المئات في الشوارع، بلا هوية وبلا مستقبل.
نظامٌ يُعاقب الضحايا
رغم التحولات الاجتماعية التي يفاخر بها ولي العهد محمد بن سلمان، يبقى قانون العقوبات السعودي غير مكتوب وغامض، ما يسمح للسلطات باعتقال النساء بتهمة “الحمل غير الشرعي” ومعاقبتهن دون محاكمة واضحة.
وتشير الشهادات إلى أن مستشفيات الولادة تُخطر الشرطة عند كل حالة ولادةٍ لأم غير متزوجة، بينما ترفض الملاجئ الحكومية استقبال النساء ومعهن أطفالهن الرضّع. حتى الحضانة الخاصة التي لجأت إليها الأمهات تُعد غير مرخصة، لكنها الوحيدة التي تفتح أبوابها أمام أطفال بلا أوراق.
إحدى الأمهات، بينينا وانجيرو كيهو، رُحّلت إلى كينيا دون طفلتها “بريشس”، بعد مداهمة الشرطة لمنزلها في الرياض. تقول وهي تتصفح صور ابنتها من بعيد: “توسلت أن يرحلوني معها، لكنهم رفضوا. لا أعرف إن كنت سأراها مجددًا.”
في المقابل، تكرر الحكومة السعودية في بياناتها أن “فصل الأم عن طفلها غير مسموح به تحت أي ظرف” وأن الأطفال يحق لهم بالحصول على وثائق. لكن شهادات الأمهات تكشف عكس ذلك: إجراءات معقدة، تحقيقات مع الشرطة، ومماطلة متعمدة تنتهي غالبًا بالترحيل القسري دون الأبناء.
مسؤولية مزدوجة… وصمتٌ رسمي
يوجه التحقيق اتهامات قاسية ليس فقط للرياض بل أيضًا لنيروبي، إذ تُتهم السفارة الكينية في السعودية بالتقاعس بل وإهانة الأمهات. بعض الموظفين وصفوهن بـ”العاهرات”، ورفضوا إصدار شهادات ميلاد لأطفالهن.
وحتى اختبارات الحمض النووي التي وعدت بها الحكومة الكينية، لم تُجر إلا مرة واحدة منذ 2023، رغم وجود مئات الحالات المسجلة رسميًا.
لكن الانتقادات الأشد وُجهت إلى النظام السعودي نفسه، الذي يواصل — بحسب منظمات حقوقية — إدارة منظومة توظيف “استغلالية”، تُجنّد النساء الإفريقيات عبر وكالاتٍ تملكها نخب سياسية واقتصادية، لتتحول العمالة المنزلية إلى شكلٍ من “العبودية الحديثة”.
ففي ظل غياب الرقابة، تتكرر وقائع الاغتصاب والضرب والعمل القسري، دون أن يُحاسب أصحاب العمل أو تُنصف الضحايا.
التناقض الصارخ بين الشعارات والواقع
تتباهى السعودية في المحافل الدولية بـ”رؤية 2030″ والانفتاح الاجتماعي، لكنها في الوقت ذاته تفرض على آلاف النساء الأجنبيات العيش في خوفٍ دائم من السجن أو الترحيل.
بينما ينص القانون المحلي على حق كل طفل — مهما كان وضعه القانوني — في الهوية والرعاية، تؤكد التحقيقات الميدانية أن هذا الحق لا يُطبّق فعليًا.
تقول الناشطة الكينية روز ناموساسي، التي تتواصل مع العائلات المتضررة: “السعودية تتعامل مع هؤلاء النساء وكأنهن أدوات تُستخدم ثم تُرمى. لا أحد يُحاسب المسؤولين عن هذه الانتهاكات.”
ويقف هؤلاء الأطفال — الذين وُلدوا في أغنى دولة عربية — بلا جنسية، بلا تعليم، وبلا رعاية. أمهاتهم، اللواتي جئن بحثًا عن الأمان، يجدن أنفسهن مطارداتٍ من الشرطة ومن السفارات، ومرغماتٍ على النوم في العراء قرب محطات الوقود.
ورغم إنكار الرياض المستمر، فإن المنظمات الحقوقية تطالب الأمم المتحدة بفتح تحقيقٍ رسمي في الانتهاكات الممنهجة بحق العاملات المنزليات في السعودية، ومحاسبة المتورطين في الترحيل القسري، وحرمان الأطفال من أبسط حقوقهم الإنسانية.
تقول الصحيفة في ختام تحقيقها “في بلادٍ تُنفق المليارات على الرياضات والترفيه، ما زال أطفالٌ يُولدون في الظل بلا اسم ولا وطن”، مضيفة: “إنهم الدليل الحي على أن التحديث السعودي لا يزال انتقائيًا… يلمّع الصورة في الخارج ويُخفي المأساة في الداخل.”



