فضائح السعودية

النظام السعودي يحتكر أكثر من 50 مسمّىً وظيفي في أربعة أشخاص فقط

دولة تدار من مكاتب مغلقة

من يتأمل في خريطة السلطة بالمملكة اليوم، يكتشف أنها لم تعد دولة مؤسسات بقدر ما صارت دولة أشخاص.

فالنظام الحاكم، بزعامة ولي العهد محمد بن سلمان، اختزل الدولة في مجموعة صغيرة من الأفراد الذين يستحوذون على أكثر من خمسين منصبًا سياديًا وتنفيذيًا واستثماريًا.

الأدهى أن ما لا يقل عن 34 مسمّى وظيفي يتركز في شخص واحد هو محمد بن سلمان نفسه، ما يجعلنا أمام “احتكار وظيفي” غير مسبوق يعكس أزمة بنيوية في بنية الحكم السعودي.

تركيز السلطة في يد ولي العهد

لا يكتفي بن سلمان بصفته السياسية كـ ولي عهد ورئيس وزراء ورئيس مجلسي الشؤون السياسية والاقتصادية، بل يضيف إلى ذلك السيطرة المطلقة على أهم الملفات الاستثمارية والاقتصادية، مثل رئاسته لمجلس إدارة صندوق الاستثمارات العامة، وهو أكبر الصناديق السيادية في المنطقة، إلى جانب إشرافه على مشاريع كبرى مثل نيوم والقدية وروشن والبحر الأحمر والسودة.

بذلك، يصبح ولي العهد ليس فقط رئيس السلطة السياسية والأمنية، بل أيضًا “الرئيس التنفيذي” لاقتصاد الدولة، و”المستثمر الأول”، و”المطوّر العقاري الأكبر”.

هذا التركيز المفرط للسلطات يتجاوز مفهوم القيادة المركزية إلى بناء “دولة أحادية” حيث لا صوت ولا قرار يتجاوز شخص الحاكم.

تحكم في الشركات الوطنية الاستراتيجية

الأمر لا يتوقف عند الاقتصاد العقاري. ابن سلمان يتربع على قمة أرامكو، أهم شركة نفطية في العالم، ويمسك بزمام الصناعات العسكرية عبر رئاسته للهيئة العامة للصناعات العسكرية. كما يرأس المجلس الأعلى للفضاء، ما يعني أن ملف التكنولوجيا الاستراتيجية أيضًا تحت قبضته.

بهذا الشكل، تتحول القرارات المصيرية في قطاعات النفط والغاز والسلاح والتكنولوجيا إلى امتداد مباشر لمكتب ولي العهد، بعيدًا عن أي مشاركة مجتمعية أو حتى مؤسسية.

حتى القطاع الخيري والتعليمي لم يسلم من “خصخصة السلطة”. ابن سلمان يرأس مؤسسة مسك وهيفولوشن، ويمسك بملفات المحميات الطبيعية وصندوق الشهداء، ويشرف على كلية الأمير محمد بن سلمان للإدارة وريادة الأعمال.

بهذا يخلق ولي العهد شبكة ناعمة من النفوذ تمتد إلى الجامعات، المؤسسات الاجتماعية، وحتى المبادرات البيئية، بحيث يُصاغ المجال العام وفق رؤيته وحده، ويتحوّل العمل الخيري إلى ذراع أخرى من أذرع السيطرة.

ثلاثة شركاء في احتكار السلطة

لكن ولي العهد ليس وحده. هناك ثلاثة أسماء أخرى تلعب أدوارًا محورية:

عبد العزيز بن سلمان: وزير الطاقة وأحد أكثر الشخصيات نفوذًا في قطاع النفط والتعليم العالي، يجمع بين رئاسة هيئات تنظيم الكهرباء والطاقة الذرية ومجالس أمناء جامعات مرموقة مثل كاوست وجامعة البترول.

تركي آل الشيخ: الذراع الترفيهية لابن سلمان، يحتكر ملف الرياضة والفعاليات الكبرى، ويتحكم في أندية كرة القدم، ويمسك بملف هيئة الترفيه التي صارت من أبرز أدوات القوة الناعمة للنظام.

ياسر الرميان: المحافظ القوي لصندوق الاستثمارات العامة، يجمع بين رئاسة أرامكو، معادن، طيران الرياض، شركات الجولف، وحتى نادي نيوكاسل يونايتد الإنجليزي. شخص واحد يتحكم في استثمارات بمئات المليارات داخل المملكة وخارجها.

بهذا يصبح المشهد السعودي محصورًا في “رباعي السلطة”، حيث تتحول الدولة بمؤسساتها إلى مجرد لافتات قانونية لقرارات هؤلاء الأربعة.

أبعاد سياسية واقتصادية خطيرة

هذا التركيز الوظيفي له آثار كارثية على مستوى الحكم:

غياب الفصل بين السلطات: لا يوجد تفريق بين التنفيذي والتشريعي والرقابي، فالشخص نفسه يضع السياسة العامة ثم يراقب تنفيذها.

شلل المؤسسية: المؤسسات تصبح مجرد ديكور إداري بلا قرار فعلي، ما يؤدي إلى ضعف المحاسبة وغياب الشفافية.

تضارب المصالح: حين يكون الحاكم رئيس صندوق استثماري ورئيس شركة عقارية ومشرفًا على السياسات الحكومية، فإن القرارات تتداخل لخدمة المصالح الخاصة لا العامة.

هشاشة الاستقرار: ربط مصير الاقتصاد والقرارات السيادية بعدد محدود من الأشخاص يعني أن أي غياب أو تغيير فيهم يهدد بانهيار متسلسل.

من الدولة الحديثة إلى “شخصنة الدولة”

تقوم الدولة الحديثة على توزيع السلطات وضمان التوازن بينها. في السعودية اليوم، تتحول الدولة إلى “شركة عائلية” تدار من فوق.

فما يحصل يعيدنا إلى نماذج ما قبل الدولة الحديثة حيث كان الحاكم يجمع كل السلطات تحت مسمّى “الملك”، لكن مع فارق أن المشهد السعودي يرفع شعار “التحديث والابتكار” بينما يعيد إنتاج أبشع صور الاحتكار السلطوي.

ويتناقض هذا النمط مع الخطاب الرسمي الذي يتحدث عن “رؤية 2030” والحوكمة الرشيدة وجذب الاستثمارات العالمية. المستثمر الأجنبي، حين يرى أن أربعة أشخاص يحتكرون أكثر من خمسين منصبًا، سيدرك أن بيئة الأعمال لا تخضع لمؤسسات بل لأمزجة أفراد.

ويظهر كل ذلك أن النظام السعودي اليوم يواجه مأزقًا بنيويًا: دولة تدّعي التحديث بينما تبني سلطتها على احتكار غير مسبوق للمناصب. محمد بن سلمان يختزل الدولة في شخصه، ويضيف ثلاثة شركاء لتوزيع بعض الملفات، لتصبح النتيجة “دولة رباعية” بلا مؤسسات مستقلة.

هذا النمط قد يمنح النظام قوة آنية في السيطرة، لكنه يحمل بذور أزمته المستقبلية: انهيار شرعية المؤسسات، تفاقم تضارب المصالح، وتعميق العزلة الدولية في ظل خطاب إصلاحي لا يطابق الواقع.

في النهاية، الدولة التي تُدار بـ”50 منصبًا” محتكرًا في أربعة أشخاص فقط ليست سوى قناع هش لدولة تُدار بقرار فردي، معزولة عن مفهوم الدولة الحديثة وعن أبسط قواعد الحوكمة التي تبني استقرار الأمم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى