لم يعد الحج هو التجربة الروحانية التي من شأنها أن تغير حياة الإنسان، بعدما سُلِبَت التعددية الدينية والثقافية والتاريخية للمدينة, لقد تحول إلى ممارسة دنيوية انتقالًا بين المناسك والتسوق.
أما اليوم فالحج عبارة عن رحلة سياحية، لا تتحرك فيها إلا مع المجموعة التي تنتمي إليها، من فندق إلى آخر، دون مقابلة آخرين من مختلف الأعراق والثقافات.
وفي كل موسم حج يزداد انتباه المسلمين في كل مكان إلى عمق التغيير الذي شهدته مدينة مكة المكرمة في العقود الاخيرة, وكيف اكتسبت المدينة طابعاً استهلاكياً يتعارض الطابع الروحاني للحج.
ويحمل محو التاريخ المكي أثرًا هائلًا على الحج نفسه، فالحج يعني المشقة.
وهي الرحلة الروحانية التي يصل الحجاج إلى غايتها من الأثر الروحاني والمعرفي من خلال الانتقال بين المناسك المختلفة، ومقابلة المسلمين ذوي الخلفيات الثقافية والطائفية المتعددة، والمرور بالتاريخ الإسلامي.
حين زار مالكولم إكس مكة عام 1964، لم يكن أمامه سوى الانبهار بالمدينة التي بدت “بقِدَم الزمان ذاته”، ووصف توسعة المسجد الحرام -المُشيَّدة جزئيًا آنذاك- بأنها “ستتفوق في جمالها المعماري على تاج محل الهندي”.
لكن بعد مرور خمسين عامًا، لم يعد بوسع أحد وصف مكة بالقِدم، أو ربط الجمال بأقدس مُدن الإسلام، أما الحجاج الباحثون عن تاريخ مكة بينما يقضون مناسكهم هذا الأسبوع؛ فلن يٌسفر بحثهم عن شيء.
والآن، لا يمثل المسجد الحرام الموقع المعماري المهيمن في المدينة، بل يحتل فندق برج الساعة الملكي هذه المكانة، بارتفاع يصل إلى 1972 قدمًا (أكثر من 600 متر)، ما يضعه في مصاف أطول المباني في العالم.
وهو جزء من المد الهائل لناطحات السحاب التي تضم مراكز التسوق والفنادق التي تلبي حاجات الزوار فاحشي الثراء.
ولم يعد أفق مكة كذلك محاطًا بقمم الجبال المحيطة بها، بعدما تم تسطيح هذه الجبال. اليوم تقع مكة بين هياكل الصلب والخرسانة المسلحة، فيما يشبه خليطًا من ديزني لاند ولاس فيغاس!
يحمل “الأوصياء” على المدينة المقدسة، من حكام السعودية ورجال الدين، كراهية عميقة للتاريخ، ويرغبون في أن يبدو كل شيء جديدًا.
في الوقت نفسه، تتوسع مختلف المواقع لاستيعاب زيادة عدد الحجاج، الذي وصل إلى ثلاثة ملايين حاج، مقارنة بحوالي 200 ألف في ستينيات القرن الماضي.
وقد شهدتُ بنفسي المرحلة المبدئية من تدمير المدينة المقدسة في منتصف السبعينيات، حيث تمت تسوية العديد من المباني العتيقة بالأرض، بما في ذلك مسجد بلال الذي يعود تاريخه لزمن النبي محمد، والبيوت العثمانية القديمة بمشربياتها ونوافذها الأنيقة، بينما استبدلت الأبواب المنحوتة بأخرى قبيحة على الرغم من حداثتها.
وفي غضون أعوام قليلة، تحولت مكة إلى مدينة “حديثة” بكل ما يتضمنه ذلك من الطرق متعددة الحارات، وتقاطعات الطرق، والفنادق الفخمة، ومراكز التسوق.
أما المباني القليلة الباقية ذات الأهمية التاريخية والثقافية فقد أُزيلت مؤخرًا. انتهى تشييد برج الساعة الملكي في مكة عام 2012، وهو البرج الذي بُني على أنقاض ما يقرب من 400 موقع أثري وثقافي، بما في ذلك القلة القليلة الباقية من المباني التي يعود تاريخها لألف سنة مضت.
وصلت الجرافات في منتصف الليل، وشُردَّت الأسر التي عاشت هناك لقرون. وبُني المجمع على قمة قلعة أجياد، التي شُيدت حوالي عام 1780، لحماية مكة من الغزاة واللصوص.
تحول موقع بيت السيدة خديجة زوجة النبي محمد، إلى مجموعة من المراحيض، بينما بُني فندق هيلتون مكة على أنقاض بيت الصحابي الجليل والخليفة الأول أبو بكر الصديق.
وبعيدًا عن الكعبة ذاتها، فإن صحن المسجد الحرام وحده هو من احتفظ بجزء من تاريخ المدينة.
يتكون الجزء الداخلي من المسجد من أعمدة رخامية منحوتة بدقة، ومُزينة بأسماء الصحابة. ويرجع تاريخ بناء هذه الأعمدة إلى عهد السلاطين العثمانيين في القرن 16، إلا أن الخطة المُرتقبة تقضي بإزالتها هي وصحن المسجد الداخلي بأكمله، واستبدالها بمبنى حداثي يشبه كعك الدونتس!
المبنى الوحيد الآخر الباقي في المدينة ذو الأهمية الدينية، هو البيت الذي عاش فيه الرسول.
واُستخدم البيت في معظم العهد السعودي سوقًا للماشية، قبل أن يتحول إلى مكتبة غير مفتوحة للعامة.
إلا أن هذا لم يكن كافيًا بالنسبة لرجال الدين المتشددين في السعودية، الذين نادوا مرارًا بهدمه، إذ يخشى رجال الدين من أن يصلي الحجاج أثناء زيارتهم للنبي بدلًا من الله، وهو أحد الذنوب التي لا تُغتفر! إنها مسألة وقت قبل أن يُسوى بالأرض، وربما يتحول إلى موقف للسيارات.
الدمار الثقافي الذي أصاب مكة غيّرها بشكل جذري، فعلى العكس من بغداد ودمشق والقاهرة، لم تكن مكة مركزًا ثقافيًا وفكريًا للإسلام، إلا أنها لطالما كانت مركزًا تعدديًا للمناظرات بين مختلف فرق الإسلام، وبين المدارس الفكرية المختلفة.
إلا أنها تحولت الآن إلى مدينة لا تسمح سوى بتفسير واحد حرفي للإسلام، مدينة ترى جميع الطوائف المتعددة للإسلام -غير الإسلام السلفي السعودي- طوائف باطلة.
ويظهر ذلك بالفعل بشكل متكرر في تهديد المتطرفين للحجاج من الطوائف الأخرى.
العام الماضي، هوجمت مجموعة من الحجاج الشيعة بالسكاكين من قبل مجموعة من المتطرفين. وفي آب/أغسطس، راسل اتحاد مكون من مجموعات المسلمين الأمريكيين وزارة الخارجية، طلبًا لحمايتهم أثناء موسم الحج في ذلك العام.
إن مكة هي صورة مصغرة للعالم الإسلامي، وما يجري لها وفيها يحمل تأثيرًا مطردًا على المسلمين في كل مكان. إن القلب الروحي للإسلام الآن هو جيبٌ أحادي الطابع، شديد الحداثة الشكلية، لا يسمح بالاختلاف، ولا يمثل التاريخ له أي معنى، بينما يسود النمط الاستهلاكي في أرجائه.
وهو ما يجعل انتشار التفسير الحرفي للإسلام، والتفسيرات القاتلة المرتبطة به، في أنحاء بلاد الإسلام غير مثير للدهشة.