لدى السلطات السعودية تاريخا حافلا في إدارة الحج والإخفاق والفشل والتي عادت إلى الواجهة هذا العام بعد تسجيل وفاة مئات الحجاج وسط تقصير حكومي فاضح.
ولطالما حدثت كوارث وأزمات كبرى في إدارة الحج، وهذا الحدث ليس أولها ولن يكون أخرها في ظل استمرار هذا النمط البائس من الحكم، أي حكم الفرد الواحد وسوء الإدارة.
إذ أن أزمات الحج تتكرر بشكل مختلف كل عام وكأن الحكومة السعودية تكتشف أن موسم الحج قادم بالصدفة فيما هي في الواقع تظهر تقصيرا جسيما.
وطوال العقود الماضية حدثت كوارث جعلت العديد من الدول تطالب بأن تكون هناك حلول لمواجهة تحدي إدارة الحجاج.
والحقيقة أن إدارة مليون ونصف المليون إلى مليونين شخص ليس بالأمر الهين، لكن كعادة الحكومة السعودية متعجرفة ومتكبرة عن التعلم وسماع التجارب وإشراك مؤسسات الدول المسلمة في نقل خبرتها وتجاربها وكوادرها في مثل هذا الحدث الأممي.
وفي 12 ديسمبر عام 1934 عندما قرر عبدالعزيز دخول مكة والاستيلاء عليها، كان يواجه معضلة أساسية هي كيف يمكن له إقناع أهل الحجاز والعالم الإسلامي قيادات وشعوب بهذه الخطة؟.
نشر عبدالعزيز خطابة الأول في صحيفة أم القرى في عددها الأول دوافع دخوله للحجاز وقال بالحرف الواحد ” أكبر همنا تطهير هذه الديار المقدسة من أعداء أنفسهم الذي مقتهم العالم الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها” ثم قال ” سنجعل الامر في هذه البلاد المقدسة- بعد هذا- شورى بين المسلمين” العدد الأول.
هذا الخطاب بعثه إلى العديد من زعماء العالم الإسلامي دولاً وجماعات.
كان عبدالعزيز يعلم أن مكة ليست ملكاً لأحد، حتى الشريف حسين كان يعلم هذا، وكان يتكسب من الحجاج عبر جماله وبغاله في نقلهم من وإلى مكة، لكن لم تكن مكة مستباحة لشخص واحد يفعل بها ما يحلوا له.
كانت مكة تاريخاً تخضع لعدد من المرجعيات التنظيمية من مصر وإسطنبول العثمانية، وحتى في مرحلة لاحقة الإنجليز والفرنسيين في ترتيب أمور رعاياهم وخوفهم من أن تكون مكة مركزاً للعمليات التخطيطية ضد الاستعمار.
وأيضا كانت تحرص هذه المرجعيات على عدم تفشي الأوبئة التي كانت تفتك بالحجاج مثل الملاريا التي استمرت عقداً كاملاً تحصد الحجاج وتفتك بهم.
هذه المرجعيات مثل العثمانيين مع الانجليز والفرنسيين قررت في مرحلة تاريخية بإقامة مناطق حجر، في البحر الأحمر وفي جدة، لعزل الحجاج والكشف عليهم والتأكد من سلامتهم.
لهذا لم تكن مكة قبل الحكومة السعودية أرض بلا تنظيمات أو قوانين تنظم الحج، بل إن مكة كان بها مجلس إداري اسبوعي يُعقد لمتابعة أحوال مكة، والمراجع حول تاريخ مكة سهل الوصل لها وهي غير قليلة.
لكن أهمها ما صدر خلال السنوات الماضية لمايكل كريستوفر “إمبراطورية مكة”، هذا الكتاب يحكي قصة الماضي المكي بخيره وشره.
أما عن العهد السعودي، فكما يقول الواقع المأساة ليس لها وصف ولا أبالغ إن قُلت أن من يتابع شؤون الحج يعلم أن موسم الحج كل سنة هو تحدي كبير، حيث أن مؤشر الوفيات يعطي انعكاساً عن هذه المأساة.
فقد حاول ولا زال يحاول العديد من النبلاء في اتخاذ طريق العلم والمعرفة لتطوير مكة وإدارة شؤون الحج بشكل سليم.
وحاول الدكتور سامي عنقاوي قبل 5 عقود أن يؤسس مركز أبحاث الحج لكي يتسنى له وللفرق العلمية جعل الحج أماناً كما هو حلم كل مسلم. وهو ذات الشعار الذي تتبجح به السلطة.
ففي كتاب مكة المدينة المقدسة للدكتور البريطاني الجنسية الباكستاني الأصل ضياء الدين سردار، سرد قصة هذا الحلم الموؤد.
هناك من يقول إن الحكومة السعودية تحاول كل عام أن تُنجح موسم الحج كل سنة، وأنها تفعل الكثير. وهذا الكلام صحيح، فهي تفعل كل شيء لتحصيل أكبر قدر ممكن من المال، والضغط الكبير والمنهك على مؤسسات الدولة والموظفين الشجعان بكافة قطاعاتهم الصحية والأمنية والإدارية، فهؤلاء هم فعلاً أكبر ضحايا موسم الحج.
إذ أن الجهد المبذول يفوق الوصف، لكن إدارة الحج ليست فقط جهد المؤسسات والأفراد، بل نوعية القرارات التي تتخذ.
فعلى سبيل المثال هذا العام، صدرت تعليمات مكثفة حول التهدئة والتهديد الأمني بدأ منذ مده في بث الخوف والرعب في نفوس الوافدين للحج، فضلا عن مطاردة من لا يحمل التصاريح اللازمة للحج.
هناك جهد على أرض الواقع، لكن لا يوازي الجهد المبذول لحماية محمد بن سلمان وإنهاك العسكر في حملات عسكرية استعراضية.
الحكومة السعودية لديها القدرة على القيام بأي شيء إذا ارادت، فهي أقامت قصور الأسرة الحاكمة في نيوم في أقل من 4 أشهر، فضلاً عن قصور ومنشأة ملكية لا يمسها السوء من قريب أو بعيد، لكن الحج والبنية التحتية والإنسانية غير مهمة.
المهم لدى ابن سلمان أن يكون المهيمن وصاحبة الكلمة، حتى لو كان الثمن أرواح الضحايا التي تذهب لأسباب تافهة، وهذا مؤشر على بؤس صنيع الحكومة السعودية.
موسم الحج هو اختبار سنوي حول تقييم قيمة الانسان في بلد مثل السعودية، فهي تنجح في الاستعراض الإعلامي حول ما تزعم أنها سوف تقوم به، لكن على أرض الواقع العكس تماماً، لا يضر الحكومة السعودية فتح الباب للخبراء والكفاءات للإسهام في ترتيب الحج.
لكن هذا حلم إبليس بالجنة، فالدكتاتور لديه عقدة ونرجسية، بأنه يفهم كل شيء وأنه قادر على إدارة الأمر بحكمته التي لا يوازيها شيء من النباهة والذكاء.