أكدت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية أن الإصلاح الحقيقي داخل المملكة يتمثل بتوقف نظام آل سعود عن قمع وقتل المعارضين والإفراج عنهم من سجونها.
وذكر الكاتب مصطفي أيكول، في مقاله بصحيفة “نيويورك تايمز”، أن القرآن الكريم تحدث عن الدية “كرحمة” ووسيلة لإنهاء النزاعات المسلحة لا ليتخذها الأغنياء ذريعة وحصنا لهم.
وقال أيكول في مقاله تحت عنوان “عندما يقتل الأقوياء الضعفاء، طالما كانوا قادرين على الدية” إن العالم صدم في أكتوبر 2018 عندما سمع بأنباء الجريمة البشعة لقتل الصحافي السعودي البارز جمال خاشقجي والناقد لولي العهد محمد بن سلمان.
وشهدت قنصلية المملكة في إسطنبول، بـ 2 تشرين أول/ أكتوبر 2018، واحدة من أبشع الجرائم باستدراج مسؤولين سعوديين لخاشقجي، وخنقه، وقتله قبل تقطيع جثته وإخفائها، وسط اتهامات مباشرة لولي العهد محمد بن سلمان بالمسؤولية عمّا حدث.
ونفت سلطات آل سعود قتل خاشقجي داخل القنصلية، ثم أجبرت على الاعتراف أن خاشقجي قتل على يد فرقة قتل خاصة تتبع لولى العهد.
وفي 22 مايو/ أيار المنصرم أعلنت أسرة الكاتب خاشقجي، عفوها عن قتله، وتنازلها عن المطالبة بالقصاص منهم وذلك تحت ضغط شديد مارسه نظام آل سعود على مدار أشهر.
وقال صلاح، نجل الراحل، في بيان نُشر على صفحته بـ”تويتر”: “في هذه الليلة الفضيلة من هذا الشهر الفضيل نسترجع قول الله: (وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين)، ولذلك نعلن نحن أبناء الشهيد جمال خاشقجي أننا عفونا عمن قتل والدنا لوجه الله تعالى وكلنا رجاء واحتساب للأجر عند الله عز وجل”.
وقوبل إعلان أبناء الصحفي المغدور العفو عن قتلته الذي يعتقد على نطاق واسع أنه تم بضغط شديد من نظام آل سعود برفض محلي ودولي واسع النطاق وسط تأكيدات أن الجريمة سياسية.
وتساءل أيكول: “كيف يمكن إغلاق جريمة قتل من خلال عفو فرد من العائلة؟ وكيف يمكن أن يكون منح العائلة أموالا سخية للعفو مقبولا من الناحية القانونية والثقافية؟ .. والجواب كامن في فكرة (الدية) والتي استخدمت في السعودية على مدى عقود للتستر على جرائم خطيرة”.
وتقوم الدية على فكرة أن القتل ليس دائما جريمة – موضوعا للمحاكمة ولكن يمكن التعامل معها كضرر يمكن التعويض عنه بطريقة خاصة. وبعبارات أخرى “لو قتلت ابنتك فأنا مدين لك بشيء، فإما أن تطالب بقتلي أو يتم التفاوض على الدية أو مال الدم مني، ولو دفعت المبلغ المطلوب مني فنحن متساويان وأخرج حرا”.
وشهدت المملكة عام 2013 مثالا بشعا، فقد عذب وقتل الواعظ فيحان الغامدي ابنته لما البالغة من العمر خمسة أعوام ومشى حرا بعدما دفع الدية لوالدتها. ولولا حملة الشجب على تويتر وهاشتاغ “أنا لما” لظل الغامدي طليقا، حيث حوكم وسجن ثمانية أعوام مع 800 جلدة.
وتابع أيكول إن المشهد العادي في المملكة هو قيام القاتل الغني بإنقاذ نفسه عبر عرض مبالغ ضخمة لعائلة الضحية، وهي أموال يتم جمعها كتبرعات من أقارب القاتل كـ”صدقة” بشكل يخلق تجارة رابحة للوسطاء.
والنتيجة الكلية لكل هذا هي “تخفيف السلوك الوحشي للقتلة والمجرمين” كما قال الصحافي السعودي هاني الحضري العام الماضي.
ويتمثل المشهد العادي في المملكة بقيام القاتل الغني بإنقاذ نفسه عبر عرض مبالغ ضخمة لعائلة الضحية، وتم تصدير الممارسة إلى باكستان في عام 1990 حيث أقرت قانون القصاص والديات والذي جعل من دفع المال كخيار قانوني لإغلاق قضايا القتل.
ووفر القانون غطاء لحالات قتل الشرف، فعندما تقرر عائلة قتل ابنتها بناء على فهمها المنحرف للشرف يقوم الابن بالمهمة أما الأب فيعفو عنه.
وصدمت باكستان عام 2012 عندما علمت عن قصة شاهزيب خان الذي حمى أخواته من بلطجية مخمورين قتلوه.
إلا أن عائلة القتلة هددت عائلة خان الفقيرة بقتل كل بناتها في حالة لم تعف عن القتلة وتقبل الدية لإغلاق القضية.
ودعت حالات كهذه الباحث الباكستاني حسن جافيد للدعوة إلى إنهاء قوانين الديات المعمول بها في باكستان والمملكة والإمارات وإيران لأنها “تعطي الأغنياء والأقوياء وسائل لتجنب مسؤوليتهم عن الجرائم التي قد يرتكبونها”.
إلا أن الإصلاح القانوني لهذا يواجه عقبة وهي أن فكرة الدية نابعة من القرآن وبالنسبة لبعض المسلمين فلا مجال للنقاش في هذا. ولكن هؤلاء المسلمين لا ينتبهون إلى أمر مهم وهو أن القرآن وهو نص بسياق إنساني للقرن السابع، تحدث إلى مجتمع مختلف كانت الدية فيه تخدم هدفا مختلفا.
ويمكننا فهم هذا السياق من خلال المفسر العظيم في القرن الثاني عشر، فخر الدين الرازي، الذي قال إن الجزيرة العربية قبل الإسلام كانت ساحة حرب قبلية دون سلطة مركزية أو قوى شرطة ولا محاكم.
وكانت عقوبة جريمة القتل بين القبائل تحل عبر القصاص “النفس بالنفس والعين بالعين”. إلا أن القبائل كان لهم فهم مختلف عن “الشرف”، والأكثر تعجرفا منهم طالب بأكثر من نفس مما أبد النزاع بين القبائل لأجيال.
وألمح الباحث في الإسلاميات مونتغمري وات إلى عادة كانت معروفة لدى الأنغلوساكسون: “اعترف الرجال الحكماء والمتنورون في ذلك الوقت بمنافع استعاضة غرامة الدم بقتل النفس”، وهو ما قاله القرآن الذي سمح بالقصاص ولكنه أضاف: “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم” (البقرة: 178).
وبعبارات أخرى فقد أقر القرآن الدية كوسيلة للرحمة ولإنهاء النزاعات القبلية، ولم يمنح حصانة للبلطجية الأغنياء والعائلات التي تقتل بناتها أو الحكام الذين يقتلون نقادهم.
ورأى أيكول أن التفسير الحرفي للنص القرآني قد يقود إلى نتائج مرعبة كما نرى اليوم.
وتساءل: “ماذا علينا فعله؟ أولا فهم أن التعاليم القرآنية ليست نهاية في حد ذاتها ولكنها وسيلة لنهاية أعلى، أي تحقيق العدل. وربما اقتضت سياقات أخرى وسائل مختلفة لتحقيق العدالة”.
وختم أيكول أن المملكة اليوم تمثل المشاكل العميقة للتقاليد الإسلامية القديمة التي تجاوزت الكثير من هذه الإصلاحات الحديثة. وربما حاول ولي عهدها جسر الفجوة من خلال السماح وبشكل تجميلي للمرأة بقيادة السيارة أو الرقص، وهو أمر جيد، إلا أن الإصلاح الحقيقي للمملكة يأتي من خلال القبول بحكم القانون وحرية التعبير، ويشمل هذا عدم قتل الصحافيين الناقدين والتستر على قتلهم من خلال دفع الدية.
يذكر أن القضاء التركي أصدر في 5 ديسمبر / كانون الأول الماضي، مذكرة توقيف بحق النائب السابق لرئيس الاستخبارات السعودي أحمد عسيري، والمستشار السابق في الديوان الملكي سعود القحطاني؛ للاشتباه بضلوعهما في الجريمة.
وقالت مقررة الأمم المتحدة، آنياس كالامار إن أدلة موثوقة تبين أن ولي العهد محمد بن سلمان ومسؤولين كبار يتحملون المسؤولية الشخصية عن جريمة القتل. ودعت إلى تحقيق دولي مستقل في القضية.
كما قال يرى فرِد رايان، المدير التنفيذي لصحيفة واشنطن بوست، في مقال نشرته الصحيفة، إن سلطات آل سعود “تتبنى استراتيجية مراوغة” عبر تقديم “مسؤولين يمكن التضحية بهم ككباش فداء” لإجراء محاكمة صورية وتخفيف حدة الغضب العالمي.
ومنذ ذاك الحين، تبحث المملكة عن صورة جديدة أمام المجتمع الدولي في أعقاب سلسلة جرائم هزت الرأي الدولي، أبرزها قضية اغتيال الصحفي خاشقجي.
وكشفت وكالة أسوشيتد برس مطلع مايو/أيار الحالي أن المملكة بصدد إجراء إصلاحات جديدة بغية تحسين سجلها في حقوق الإنسان، وتلميع صورتها التي تضررت نتيجة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي والانتهاكات في حرب اليمن.
وشرعت المملكة مؤخرا – حسب وكالة أسوشيتد برس- في إجراء تعديليْن على الأحكام، يلغي أحدهما عقوبة الجلد، في حين يلغي الثاني تنفيذ حكم الإعدام في المدانين الذين ارتكبوا جرائم عندما كانوا قاصرين.
كما يحاول آل سعود استثمار أموال المملكة في الخارج بقطاع الترفيه في الولايات المتحدة الأميركية الذي قد يبدي استعداداً لغض النظر عن سجلها المرتبط بانتهاكات حقوق الإنسان وجريمة اغتيال الصحافي خاشقجي.
واشترى آل سعود خلال إبريل/ نيسان الماضي حصة قيمتها 500 مليون دولار أميركي، أو 5 في المائة، من أسهم شركة البثّ الموسيقي “لايف نايشن” Live Nation، لتصبح ثالث أكبر مستثمر فيها، بعدما انخفضت قيمة أسهمها بأكثر من 40 في المائة.
وخلال الربع الأول من العام الحالي، استثمرت المملكة 500 مليون دولار أميركي في شركة “والت ديزني” Walt Disney.
وأفادت مجلة “هوليوود ريبوتر”، في 6 مايو/أيار الحالي، بأن صفقات جديدة ستعقدها المملكة خلال الفترة المقبلة، مشيرة إلى أن “صندوق الاستثمارات العامة” السعودي يقدم عروضاً لشراء أسهم في “تايم وارنر ميوزيك غروب” Time Warner Music Group.
لكن عبد الله العودة الباحث في مركز التفاهم الإسلامي- المسيحي بجامعة جورج تاون، قال إن جريمة قتل جمال خاشقجي لا يمكن العفو عنها.
وقال إن عائلة خاشقجي لا تختلف عن أية عائلة سعودية أخرى تتعرض للابتزاز والضغوط الكبرى من نظام آل سعود.
وأضاف العودة: “نحن نشاهد عددا غير مسبوق فيه من الحالات التي تستخدم فيها العائلات كرهائن يتم من خلالها ابتزاز الناشطين والكتاب في الخارج”.