أبرزت هيئة البث البريطانية “بي بي سي” ما تثيره حملات هدد جدة في السعودية من مقاومة شعبية سلمية نادرة بسبب عمليات الهدم.
وجاء في تقرير للهيئة أن سكان أحياء هدمت حديثاً في مدينة جدة لبناء مشروع استثماري، اشتكوا من عدم تلقيهم تحذيرات مسبقة أو تعويضات قبل هدم منازلهم.
وصنفت السلطات السعودية المناطق المستهدفة الممتدة على مساحات شاسعة من جدة القديمة، بأنها عشوائية، وتشكل معقلاً “للجريمة والرذيلة”.
لكن سكان هذه الأحياء، ينفون ذلك، ويؤكدون أنهم يعيشون هناك منذ فترات طويلة مع أسرهم، إذ توفر تلك الأحياء سكناً مريحاً للمواطنين والمغتربين الأقل دخلاً.
وأثار الأمر سخطاً نادراً بين المواطنين على وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً تويتر وتيك توك، وانتقد المشاركون انعدام العدالة والمساواة، في خطط الحكومة لتطوير المناطق المستهدفة.
وهدمت الجرافات مناطق واسعة في المدينة، وحولتها إلى أكوام من الحطام، في مشهد يذكر بمخلفات الحروب.
وانتشرت مقاطع فيديو مصورة لهدم أبنية سكنية كبيرة على الانترنت، وانتشر هاشتاغ “هدد_جدة” على تويتر لعدّة أسابيع.
وأظهرت بعض المقاطع أشخاصاً يودعون بعض المعالم المحببة في وسط المدينة.
بعض من كبروا في ثاني أكبر المدن السعودية، رثوا المنطقة التب كانت تشكل يوما، قلب المدينة، لكنها أصبحت مهملة خلال العقود الأخيرة.
أحد النشطاء السعوديين المعروف باسم “وجيه ليون (الأسد)”، وصف في حديث لـ”بي بي سي” ما يجري في جدة بأنه تدمير لتاريخ المدينة وتراثها.
ولكن السلطات لا ترى الأمر على هذا النحو.
فمشروع التطوير الذي تصل ميزانيته إلى نحو 20 مليار دولار، لا يقدّم كمجرد مشروع تحديث جدة، ولكن أيضاً كترميم لتراثها الثقافي وقيمتها المعمارية.
فالمدينة عرفت كميناء للتجارة، بين الشرق والغرب، خلاف السنين، كما أنها تعد نقطة استقبال لأعداد لا تحصى من المسلمين، خلال موسم الحج السنوي.
وتضم مخططات المنطقة، إنشاء دار للأوبرا، ومتحفاً بحرياً، وملعب كرة قدم، وميناءاً ضخماً، وشاطئ عام.
وحسب مخطط الحكومة، ستبقى بعض المعالم في مكانها، مثل برج تحلية المياه، والذي سيتحول إلى متحف صناعي، كما ستبنى 17 ألف وحدة سكنية.
لكن السكان الذين اعتادوا الإقامة في المنطقة، يؤكدون أنهم لن يستطيعوا العودة إليها لأن العقارات المخطط لها، ستصبح عالية الكلفة، ومخصصة للأثرياء.
رجل أعمال، من سكان إحدى هذه المناطق، تحدث إلى بي بي سي، طالبا الإشارة إليه بحرفي “ك م”، قال إنه لم يصدق عينيه عندما عاد إلى المنطقة قبل أسبوعين، بعدما أمضى شهرين بعيداً عنها.
وأضاف “لا يمكن تصديق ما جرى، كان هناك مبانٍ وأحياء تقطن فيها أسر، سويت بالأرض”.
وأشار إلى أن العديد من السكان أصبحوا من دون مأوى، واضطروا للانتقال إلى أحياء أبعد حتى يكون الإيجار أقل كلفة، كما أن بعض الأشخاص عادوا إلى الإقامة في منازل أسرهم في مدن أخرى.
أما بالنسبة لموقفه الشخصي، يقول “ك م”، إنه استثمر أموالاً كثيرة في تطوير بعض الوحدات السكنية، والإدارية، في المنطقة، ورغم ذلك، ورغم حصوله على كل التصاريح اللازمة، إلا أن الحكومة أصرت على إزالة مبنيين كان يمتلكهما، ولا يوجد أي دليل يشير إلى أنه سيحصل على تعويض مناسب.
نفس القصة يرددها الكثيرون، على منصات التواصل الاجتماعي، ويؤكدون عدم حصولهم على مهلة كافية لنقل حاجياتهم، وترتيب أمورهم، ويؤكدون أن الوعود الحكومية، بتقديم تعويضات، أو مساكن بديلة، محدودة جداً حتى الآن.
ويعبر هؤلاء عن اعتقادهم أن المنطقة استهدفت بشكل خاص، لأنها تعد معقلاً لخليط من الأعراق، والجنسيات، إذ كانت جدة تفخر دوما بأنها مدينة متعددة الثقافات، ومنفتحة.
وكانت الأحياء المهدومة من الأماكن التي اختارت أجيال من الحجاج البقاء فيها بعد أداء المناسك، وبناء حياتهم هناك، مع نيل بعضهم الجنسية.
ورغم ذلك تبقى غالبية السكان من الفقراء الذين يعملون في أعمال يدوية صعبة، ساهمت ببناء السعودية الحديثة، ولكن من دون اقامات ثابتة في بعض الأحيان. وقال أحدهم إنه يعتبر أن المشروع الحكومي بمثابة تطهير عرقي.
وعبر السكان عن غضبهم، من شيطنة السلطات لهم ووسمهم بأنهم تجار مخدرات، ومجرمون، وعمال جنس، ووصف المنطقة بأسرها بأنها عشوائيات.
ويعترف “ك م” بأنه يمكن اعتبار منطقتين أو ثلاثة، من بين المناطق التي يشملها المخطط مناطق عشوائية، لكنه يؤكد أن بقية المناطق، أحياء عادية، تحوي كل متطلبات للحياة الكريمة، مثل المياه والصرف الصحي، وشبكات الكهرباء، وتوفر بيئة مناسبة للعيش، كمنطقة منخفضة التكاليف، مقارنة بأحياء أخرى في جدة.
وتراجعت حدة الانتقادات أخيراً، خصوصاً أن الهدم بات أمراً واقعاً. إلى جانب المخاطر التي يجلبها رفع الصوت، والاعتراض على تغيير مماثل، يعد أحياناً مغامرة غير مضمونة العواقب.
لكن شعوراً بالظلم والاستياء يسيطر وسط من وجدوا أنهم حرموا عرفياً من مساكنهم، سعياً وراء رؤية جديدة للمملكة، كمنافسة لدبي في اجتذاب المستثمرين والسواح. رؤية لم تترك أي مكان لأمثالهم.