مراجعات رؤية 2030 تكشف فواتير سوء الإدارة وتآكل زخم المشاريع العملاقة

بعد سنوات من الخطاب الاحتفالي حول رؤية 2030 بوصفها قاطرة لتنويع الاقتصاد السعودي بعيدًا عن النفط، تدخل المملكة طورًا دفاعيًا واضحًا: مراجعات واسعة للمخططات، وإعادة جدولة لعقود التشييد، وتخفيف سرعة المشاريع العملاقة التي قُدِّمت كرموز للحداثة والاستدامة.

وما يجري اليوم لا يقتصر على تصحيح مسار تقني؛ بل يفضح ثغرات بنيوية في أسلوب الإدارة واتخاذ القرار، ويشير إلى كلفة سياسية–اقتصادية لتضخم الوعود على حساب الجدوى.

وقد كان جوهَر الرؤية رهانًا على مدن ومقاصد سياحية «مبتكَرة» تموّلها ذراع الدولة الاستثمارية (صندوق الاستثمارات العامة)، بهدف خلق قطاعات جديدة وتوليد وظائف.

لكن كما يشير تيرينس بيكر (كوستار)، تباطأت برامج التنمية تحت ضغط ثلاثي: تقلب أسعار النفط، تضخم التكاليف، وإعادة تقييم الاستراتيجيات. هذا التباطؤ ليس عابرًا؛ إنه انعكاس لفجوة كلاسيكية بين التسويق السياسي والقدرة التنفيذية.

وتمثل نيوم الحالة الأوضح. وفق ما عرضه إدوارد جيمس (MEED) في ندوة أخيرة، تخضع المخططات – وعلى رأسها «ذا لاين» – لمراجعات بسبب تصاعد الفاتورة وتعقيدات اقتصادية ولوجستية.

عمليًا، أُرجئت مراحل تعاقد وستُستأنف فقط بعد إعادة الضبط. حين تُجمَّد العقود بهذا الحجم، فذلك يعني أن الافتراضات الأولية حول التكلفة/العائد لم تصمد أمام الواقع.

أرقام لا تجامل: انكماش شهية التعاقد

تؤكد اتجاهات الاستثمار في الخليج الصورة. قيمة عقود دول مجلس التعاون المتوقعة لعام 2025 تهبط إلى 220 مليار دولار (مقابل 298 مليار في 2024 و261 مليار في 2023).

وتتصدر السعودية الهبوط: من 125 مليار دولار عقودًا في 2023 إلى 77 مليارًا متوقعة في 2025. هذا ليس «تباطؤًا صحّيًا» وحسب؛ إنه تراجع في قدرة الجهاز التنفيذي على تحويل الوعود إلى التزامات ممولة، ويكشف ضيقًا في شهية القطاع الخاص والمموّلين الخارجيين تجاه المخاطر.

في السياحة – التي روّجت لها الرياض كقاطرة بديلة مع الاستعداد لـ كأس آسيا 2029 وكأس العالم 2034 – يستمر التوسع الفندقي على الورق، لكن الإنفاق الرأسمالي يهوِي: من 34.6 مليار دولار في 2023 إلى نحو 11 مليارًا في 2025.

ويعني هذا الفارق عمليًا نقل العبء إلى المستقبل، وإرجاء مشروعات أو تقليص مواصفاتها، مع ارتفاع خطر «الأصول البيضاء» (مشروعات نصف مكتملة لا تحقق عائدًا).

أين تكمن علّة الإدارة؟

مركزية القرار وتقلّب الأولويات: تسلسل الإعلانات والتعديلات يعكس حوكمة تركّز القرار الاستثماري في دائرة ضيقة، ما يفاقم أخطاء التقدير ويؤخر التصحيح.

هيمنة المال العام: الاعتماد المفرط على الصندوق السيادي يزاحم القطاع الخاص ويحدّ من الفرز الطبيعي للمشاريع وفق الجدوى. غياب مشاركة أجنبية بحجم التطلعات يُضعف نقل التقنية ويزيد المخاطر على المالية العامة.

تسويق يفوق القدرة التنفيذية: تحويل «العرض المفاهيمي» إلى عقود ثم أصول منتجة يتطلب سلاسل توريد ماهرة وقوى عاملة متخصصة ونظم مشتريات مرنة؛ هذه كلها تنضج بالتدريج، لا بالقفزات.

تضخم التكاليف وتعقيد الحلول التقنية: مشاريع مثل «ذا لاين» تتطلب حلول طاقة ومياه ونقل عالية الكثافة، ما يرفع التكاليف الجارية (وخاصة الماء المُحلى والطاقة والنقل الذكي) ويضغط على العائد المتوقع.

السياحة… بين حدث ضخم وطلب غير مضمون

يمنح الاستعداد لاستضافة بطولات كبرى زخماً سياسياً، لكنه لا يضمن إشغالاً مستدامًا لأصول الضيافة.

فجوة التمويل من 34.6 إلى 11 مليار دولار خلال عامين مؤشر على أن السوق تعيد حساباتها: الطلب الموسمي لا يكفي لتبرير طاقات فندقية وبنى تحتية باهظة إذا لم يقابله تحريرٌ فعليّ لمنظومة التأشيرات، وتوسيع للإنفاق المحلي، وربطٌ لوجستي يخفّف كلفة الوصول والإقامة. سوء الإدارة هنا يتجلى في وضع «الحدث» قبل «المنظومة».

وحين يُسوّق مشروع حضري على أنه كسرٌ لقوانين الجغرافيا ثم يعود لاحقًا إلى «تكييف» مخططاته، تكون الرسالة واضحة: المنهج تصدّره الرغبة لا الجدوى.

ويؤكد مراقبون أن إعادة التقييم مطلوبة، لكن الذكاء الإداري هو في اختبار الفرضيات مبكرًا، لا بعد توقّع مئات المليارات. الكلفة السياسية لخفض الطموح عالية؛ والكلفة المالية أعلى حين تراكم العقود المؤجلة غرامات وسلاسل توريد عالقة.

دروس غائبة في بناء سلاسل القيمة

التنويع الحقيقي لا يقوم على استيراد الخرسانة والتقنية ثم بيع «تجربة» سياحية؛ بل على توطين المعرفة وقيام صناعات وخدمات مرتبطة (تصميم، صيانة، محتوى، لوجستيات ذكية).

وحين يتباطأ البرنامج وتُقلّص الاعتمادات، يظهر الفراغ: أين الشركات المحلية القادرة على الاستمرار دون دفعات سيادية؟ وأين الشراكات التي تُخرج المشاريع من ريع المقاولات إلى اقتصاد إنتاجي مبتكر؟

وتؤكد المملكة أن أسعار النفط “أفضل من المتوقع”، لكنها في الوقت ذاته تعيد تبويب المشاريع وتخفض الإنفاق وتُرجئ العقود. الرسالة للمستثمرين مزدوجة: موارد وفيرة لكن أولويات متقلّبة.

ويرفع هذا التعارض علاوة المخاطر، ويجعل التمويل الخارجي أكثر تحفظًا، ويضعف ثقة الموردين الدوليين الذين يحتاجون وضوحًا في الجداول الزمنية والسداد.

ما الذي كان يجب فعله – وما زال ممكنًا؟

مرحلية صارمة: تحويل «المشاريع العملاقة» إلى حزم أصغر قابلة للقياس والتمويل، مع بوابات قرار توقف تلقائي عند إخفاق مؤشرات الأداء.

حوكمة شفافة: نشر افتراضات التكلفة/العائد، والالتزامات الحكومية غير المباشرة، ومخاطر الطلب، لتمكين السوق من تسعير المخاطر بصدق.

شراكات ذكية لا رمزية: توجيه رأس المال السيادي لمضاعفة استثمار خاص حقيقي، لا لاستبداله.

ترتيب الأولويات: تعزيز القطاعات القابلة للتصدير وكفاءة الطاقة والمياه، قبل تكديس أصول عقارية كثيفة الاستهلاك.

إدارة توقعات: تقليل اللغة الدعائية ورفع منسوب الواقعية في المواعيد والنتائج.

وعليه فإن إعادة تقييم رؤية 2030 ليست عيبًا؛ العيب أن تأتي بعد أن تُستنزف الثقة والمال العام في مسارات كان يمكن اختبارها بأقل كلفة. التراجع الحاد في العقود، وهبوط إنفاق الضيافة، ومراجعات نيوم، كلها أعراض سوء إدارة وتضخم وعود أكثر منها ظروف سوق فقط.

وإذا أرادت الرياض أن تحافظ على صدقية مشروع التحول، فعليها أن تبرهن أن المراجعات ليست “تبطيئًا اضطراريًا”، بل تحولًا منهجيًا نحو حوكمة رصينة، ومشاريع بحجم الاقتصاد لا بحجم الشعارات.