“كورفيز”.. عقدين من العمل في واشنطن لتبيض جرائم آل سعود
كشفت وثائق عن خفايا تعاقد سلطات آل سعود مع شركة “كورفيز” الأمريكية لتحسين سمعتها في الولايات المتحدة.
وكانت هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 كارثية على المملكة السعودية، فقد صبت الولايات المتحدة غضبها على العالم الإسلامي.
سواء الحكومة الأمريكية أو مؤسسات الإعلام والأبحاث ووجَّهت أصابع الاتهام للسعودية.
وجدت الرياض نفسها في مأزقٍ لا تُحسد عليه. فقد مولت تنظيم القاعدة في حرب أفغانستان.
بموافقة وتنسيق من المخابرات الأمريكية، ليضرب التنظيم حليفها الأمريكي في عقر داره.
ولم يكن أمام الرياض بعد هجمات سبتمبر سوى ضخ ملايين الدولارات لحفظ ماء وجهها.
ولكسب رضا واشنطن مرة أخرى في ظل أخطار إقليمية عدَّة؛ إذ يحدها صدام حسين في العراق من الشمال الشرقي، والنظام الإيراني من الشرق.
شركة كورفيز
وتعد شركة «كورفيز – Qorvis»، إحدى أكبر شركات الضغط والعلاقات العامة، التي تعمل لحساب السعودية منذ أحداث سبتمبر وحتى اليوم.
قدَّمت الشركة خلال تلك الفترة خدمات مختلفة للسعودية من ضغط سياسي.
عدا ترويج وإدارة حملات إعلامية في ملفات مختلفة مثل: حرب اليمن، مقتل خاشقجي، قانون جاستا، صفقات التسليح، ملف التطبيع مع إسرائيل.
ولم يكن من السهل أبدًا أن تستأجر الرياض شركة ضغط وعلاقات عامة بعد الهجمات؛ فالتعاقد مع السعودية في ذلك التوقيت كان أشبه بالانتحار.
ووفقًا لوثائق وزارة العدل الأمريكية، فقد استأجرت الرياض آنذاك شركة «بيرسون مارستيلر – Burson Marsteller» للعلاقات العامة بعد أقل من أسبوع من الهجمات.
نشرت الشركة إعلانين ترويجيين للسعودية، وأنهت تعاقدها بعد شهرين مقابل مدفوعات بلغت مليونين و773 ألف دولار أمريكي.
وجدت الرياض ضالتها مع شركة «كورفيز» بعد أسبوعين، وكانت «كورفيز» حديثة الولادة آنذاك والسعودية زبونها الأجنبي الأول.
مؤسس الشركة مايكل بيتروزيلو، بدأ مسيرته المهنية في غرفة التجارة الأمريكية، وانتقل بعدها للعمل في كبرى شركات الضغط في واشنطن.
وبعد استقالته منها قرر تأسيس شركة «كورفيز» للعلاقات العامة، لتعمل في تقديم خدمات شاملة: بحثية وتسويقية وترويجية، وخدمات ضغط سياسي بالتعاون مع شركات أخرى.
واتفق السفير السعودي في واشنطن آنذاك بندر بن سلطان، مع شركة «كورفيز» على تقديم برنامجين
الأول قصير المدى ويتضمن تنسيق اجتماعات مع جهات حكومية مثل أعضاء في الكونجرس، أو في الجهات التنفيذية.
والثاني خدمات علاقات عامة شاملة لترويج دور السعودية في محاربة الإرهاب، وتنسيق مقابلات إعلامية لوجوه اللوبي السعودي، وتنفيذ حملات لزيادة الوعي من خلال نشر الأبحاث أو المواد التعريفية.
وجوه اللوبي السعودي في أمريكا
تركَ عادل الجبير منصبه الجديد عام 2000 مستشارًا للشؤون الخارجية لولي العهد السعودي آنذاك عبد الله آل سعود، وعاد لواشنطن بعد هجمات سبتمبر.
ولعمله سابقًا في السفارة قائمًا على شؤون العلاقات مع الكونجرس؛ اكتسب الجبير علاقاتٍ واسعة مع الساسة الأمريكيين، وساعدته لغته الإنجليزية وإتقانه للهجة الأمريكية في مخاطبة صُنَّاع القرار والإعلام الأمريكي بشكل مناسب.
وبعد هجمات سبتمبر، تواصلت شركة «كورفيز» عشرات المرات مع محطات إعلامية مختلفة لتنسيق فرص ظهور إعلامي للجبير.
وتنسيق مؤتمرات صحفية دورية له للتعليق على المستجدات والتطورات في الملف السعودي.
وكان مايكل بيتروزيلو يرافق الجبير في بعض رحلاته. وانضم للحملة الإعلامية شقيقه، نائل الجبير، الذي يعمل الآن سفيرًا للسعودية في أيرلندا.
ونسقت الشركة لقاءات إعلامية لمسؤولين سعوديين كبار، مثل وزير الخارجية آنذاك سعود الفيصل، وبندر بن سلطان، السفير السعودي لأمريكا منذ 1983، وكانت له شبكة علاقات واسعة في واشنطن وخاصةً مع الجمهوريين.
ونسَّقت الشركة حينها لقاءات إعلامية لرحاب مسعود مساعد السفير بندر.
ورتبت الشركة مقابلات إعلامية لرئيس المخابرات العامة السعودية السابق تركي بن فيصل.
واتهمي تركي في 2002 بدعوى قضائية من قبل عائلات قتلى هجمات سبتمبر بأنه وغيره من الأمراء السعوديين والجمعيات الخيرية الممولة سعوديًّا، مسؤولون عن تمويل منفذي الهجمات.
يذكر في هذا السياق أن تركي بن فيصل استقال من منصب رئيس المخابرات قبل 10 أيام من الهجمات.
أنفقت شركة «كورفيز» (بأموالٍ سعودية) ما بين أعوام 2003- 2005 ما يقارب 600 ألف دولار أمريكي فقط على إعلانات ترويجية وحوارات صحفية في مجلة «ذا نيو ريبابلك – The New Republic».
مبادرة الملك
وفي عام 2002، أعلن الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود مبادرة السلام العربية.
وتنص على إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 67 وانسحاب إسرائيل من الجولان السوري المحتل مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
وأصبحت المبادرة محورًا مهمًّا يطرحه وجوه اللوبي السعودي في كثير من مقابلاتهم الإعلامية التي تنسقها «كورفيز».
وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ فوفقًا لوثائق الشركة على موقع وزارة العدل الأمريكية.
أنفقت شركة «كورفيز» (بأموالٍ سعودية) ما بين أعوام 2003- 2005 ما يقارب 600 ألف دولار أمريكي مقابل إعلانات ترويجية وحوارات صحفية على مجلة «ذا نيو ريبابلك – The New Republic».
لم تمثل السعودية في واشنطن وجوه سعودية فقط، بل انضم لحملات اللوبي الإعلامية وجوه أمريكية مثل لِيس جانكا المساعد الخاص السابق لوزير الخارجية الأمريكي هنري كسينجر.
ونسقت شركة «كورفيز» عشرات اللقاءات الإعلامية لجانكا للحديث عن ملفات السعودية في الشرق الأوسط.
بالإضافة إلى تنسيق لقاءات لتشاك هورنر، قائد العمليات الجوية الأمريكية لعملية درع الصحراء عام 1990.
والجنرال الأمريكي بول شويرتز، لواء في مركزي العمليات والاستخبارات بوزارة الدفاع الأمريكية سابقًا، ومستشار ولي العهد عبد الله آل سعود لسنتين ونصف.
والذي تحدث عن أهمية العلاقات الثنائية والاستراتيجية بين الولايات المتحدة والمملكة السعودية في ندوة أدارها جانكا عام 2003.
وفي عام 2006، ساعدت الشركة في نشر كتاب السيرة الذاتية للأمير بندر بن سلطان وتسويقه، بالتنسيق مع دار النشر والكاتب.
وتنسيق فعاليات لترويج الكتاب في واشنطن ومدن أخرى. كلفت خدمات الترويج للكتاب قرابة مليون و500 ألف دولار أمريكي، وفقًا لوثائق الشركة على وزارة العدل الأمريكية.
75 مليون دولار
وبلغت مدفوعات السعودية بين 2001- 2010 لشركة «كورفيز» 75 مليونًا و944 ألف دولار أمريكي.
شملت خدمات بحثية وتسويقية، وضغطًا سياسيًّا، وتنسيق اجتماعات، وتنسيق فعاليات جماهيرية ترويجية.
الربيع العربي والحرب على اليمن
مع اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011 اختلفت أولويات السعودية، وعليه اختلفت طبيعة الأنشطة التي تقدمها شركة «كورفيز».
ففي 2013 قدمت الشركة خدمات لـ«الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية»، أحد أهم الكيانات السياسية المعارضة للنظام السوري بعد الثورة السورية.
أدارت الشركة حساب «تويتر» الرسمي للائتلاف، ونسقت الشركة أنشطة ومقابلات إعلامية للائتلاف واجتماعاتٍ مع موظفين في مجلس الشيوخ الأمريكي.
دعمت السعودية التحرُّك العسكري في مصر عام 2013، وقدمت الشركة آنذاك خدمات إعلامية للحكومة المؤقتة في مصر ما بعد 3 يوليو 2013.
وتمت هذه الخدمات بأموال سعودية. ومع صعود الملك سلمان بن عبد العزيز لسدة الحكم عام 2015.
وإطلاق ابنه محمد بن سلمان لعاصفة الحزم في مارس (آذار) عام 2015، أنشأت الشركة وأدارت موقعًا ينشر مستجدات عاصفة الحزم باللغة الإنجليزية.
ومنصة ترويجية للسعودية باسم «The Arabia Now». وتواصلت الشركة في تلك الفترة مع نواب وشيوخ أمريكيين، بشأن الحرب في اليمن والدور السعودي فيها.
وفي حملة لتحسين صورة الرياض في حرب اليمن بعد تضافر أصوات معارضة لها داخل الكونجرس.
عملت شركة «كورفيز» في حملة ترويجية لجهود مركز «إسناد» وهو مركز سعودي يقدم مساعدات إنسانية في اليمن.
وأعدت الشركة ملفا لبيانات عن جهود المركز ووزعته في إطار الحملة الترويجية.
وقَّع مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية في أبريل (نيسان) 2019 عقدًا مع الشركة مقابل خدمات علاقات عامة وخدمات ترويجية لأنشطة المركز
مثل منتدى الرياض الدولي الإنساني الثاني، الذي عقد بالشراكة مع الأمم المتحدة في مارس 2020.
كابوس «جاستا» وترامب
سرعان ما عاودت أحداث سبتمبر لتلقي بظلالها على العلاقة بين الرياض وواشنطن.
فقد بدأت حملة تُطالب برفع السرية عن الـ«28 صفحة»، وهذه الصفحات هي تحقيقٌ للكونجرس الأمريكي.
التحقيق يبحث في احتمال وجود تمويل من مسؤولين سعوديين أو من الحكومة السعودية لاثنين من منفذي الهجمات، ولكن التحقيقات نفت ذلك.
ونسقت «كورفيز» في هذا المسعى مقابلات إعلامية عديدة للحديث عن التحقيق وما يعنيه للسعودية.
ولكن الكابوس الحقيقي جاء مع قانون «العدالة ضد رعاة الإرهاب» المسمى اختصارًا بـ«جاستا»، وطرحه من جديد على طاولة النقاش في نهاية عام 2015.
يسمح القانون لأهالي قتلى هجمات سبتمبر برفع دعاوي قضائية ضد السعودية وطلب تعويضات.
أقر الكونجرس الأمريكي قانون (جاستا) «العدالة ضد رعاة الإرهاب» الذي يسمح لأهالي ضحايا هجمات 11 سبتمبر (أيلول) بمقاضاة مسؤولين سعوديين.
ظلَّ «جاستا» الشاغل الرئيسي لأذرع اللوبي السعودي في واشنطن لفترة طويلة.
وضغطت «كورفيز» على كبار شيوخ الجمهوريين، مثل زعيم الأغلبية ميتش ماكونيل، والشيخين الداعمين للقرار، ليندسي جراهام، وجون ماكين، لاقنعاهما بسحبه أو تعديله.
بالإضافة إلى عقد عشرات اللقاءات الإعلامية لتسليط الضوء على الضرر الذي سيحدثه قانون جاستا على العلاقات بين البلدين.
وتبعها تواصل مع السيناتور الجمهوري تيد كروز، أحد رعاة القانون وقد أقر مجلس الشيوخ القرار يوم 28 سبتمبر 2016، بعد نقض المجلس لـ«فيتو» الرئيس أوباما ضد القانون.
مع إقرار قانون «جاستا» استقبلَ العالم خبر صعود دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، وعلى عادتها بدأت الرياض جهودها كل أربع سنوات للتقرب من الإدارة الجديدة.
وصممت شركة «كورفيز» حملة علاقات عامة على هوى الرئيس الجديد فتضمنت الحملة تأكيد دور السعودية في الحرب على الإرهاب وضد «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)»
وتأكيد أهمية محاسبة إيران، وتوزيع مقالات ومواد تعريفية عن رؤية محمد بن سلمان «رؤية 2030».
التمهيد للتطبيع مع إسرائيل
وفي 22 أغسطس (آب) 2017، اجتمع مستشار الرئيس الأمريكي وصهره، جاريد كوشنر، برفقه دبلوماسيين أمريكيين، مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
وأعلنوا الاتفاق للعمل لإيجاد حل «دائم وسلمي» بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
وناقشوا تطوير المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف، «اعتدال»، ويسعى المركز إلى محاربة «الفكر المتطرف»، وتعزيز «التعايش والتسامح» بين الشعوب.
أسس المركز خلال انعقاد قمة الرياض في 20-21 مايو (أيار) 2017 التي استضافت أول زيارة خارجية للرئيس ترامب.
ووزعت شركة «كورفيز» البيان الصحفي على نطاق واسع، كما كانت تروِّج في تلك الفترة للقرارات الجديدة عن «الانفتاح والحريات» في السعودية، مثل قرار السماح للمرأة بالقيادة.
ووقَّعت رابطة العالم الإسلامي عقدًا مع «كورفيز»، ويترأس الرابطة الشيخ السعودي محمد العيسى.
وعملت الشركة في حملة إعلامية لزيارة العيسى لمعسكرات المحرقة النازية، رافقه فيها ديفيد هاريس، الرئيس التنفيذي للجنة اليهودية الأمريكية، إحدى أهم المؤسسات الداعمة لإسرائيل بالولايات المتحدة.
ونفذت الشركة حملة إعلامية لاستضافة الرابطة وفدًا من كبار الإنجيليين الأمريكيين (وهم مناصرون لإسرائيل) في مدينة جدة.
اغتيال خاشقجي
قطعت العديد من شركات الضغط السياسي علاقاتها مع السعودية وأنهت خدماتها بعد جريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول.
وما ورد بعد ذلك من أنباء تؤكِّد أن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، هو من أمر بتنفيذ العملية، وفقًا لتقييم «وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه)»، على النقيض من الرواية السعودية عن الحادثة، وأنها وقعت على يد مجموعة خارجة عن الأوامر التي تلقتها من الدولة.
لكن «كورفيز» التي مثَّلت السعودية في واحدةٍ من أصعب مراحل العلاقات بين البلدين لم تكن لتتوانى هذه المرة عن تمثيل السعودية.
وبالفعل نفَّذت حملة علاقات عامة جديدة بعد اغتيال خاشقجي لتحسين صورة السعودية.
لكن لهذه الخدمات ثمنها الخاص؛ إذ دفعت السعودية للشركة بين شهر اغتيال خاشقجي، أكتوبر (تشرين الأول) 2018 وحتى يناير (كانون الثاني) 2019، ما يصل إلى 18 مليونًا و814 ألف دولار، ثلاثة أضعاف ما كانت تتحصَّل عليه الشركة في السنوات السابقة.
وفقًا لوثائق الشركة في وزارة العدل الأمريكية. تواصلت الشركة بعد الاغتيال مع العديد من مراكز الأبحاث الأمريكية، مثل معهد بروكنجز ومؤسسة الشرق الأوسط، الذين أعلنوا رفضهم أي تمويل سعودي بعد الحادثة.
ووفقًا لوثائق الشركة على موقع وزارة العدل الأمريكية، فمنذ عام 2011 إلى اليوم، بلغت المدفوعات السعودية للشركة 40 مليونًا و397 ألف دولار.
يذكر أن الشركة وقعت عقدًا مع البعثة السعودية الدائمة للأمم المتحدة مقابل خدمات علاقات عامة وإدارية للمؤتمرات، وقع عليه عبد الله المعلمي، السفير السعودي لدى الأمم المتحدة.