صفقة “فُلك الدمام”: كيف وقعت السعودية في فضيحة تطبيع بحري مع إسرائيل؟

في خضم موجات التطبيع المستترة التي باتت تطفو على سطح العلاقات الخليجية – الإسرائيلية، تكشف قضية سفينة “فُلك الدمام” التابعة لشركة “فُلك البحرية” السعودية المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة، عن نموذج فاضح لهذا النمط الجديد من التواطؤ، والذي يتخذ من الموانئ وخطوط الشحن وسيلة للتواصل غير المباشر مع الاحتلال.

تبدو القصة في ظاهرها كصفقة شراء تجارية بحتة، لكن تفاصيلها الدقيقة تشير إلى خيوط أكثر تعقيدًا، تكشف عن خلل عميق في المسارات السعودية المعلنة، وتثير تساؤلات حول جدية المملكة في احترام إرادة الشعوب العربية، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني.

تغيير الاسم لا يمحو المسار

في 15 مايو 2025، أعلنت شركة “فُلك البحرية” السعودية – وهي ذراع النقل البحري لصندوق الاستثمارات العامة – عن انضمام سفينة جديدة إلى أسطولها البحري، تحت اسم “فُلك الدمام”.

لكن قبل هذا التاريخ بأيام فقط، كانت السفينة تُعرف باسم “Vega Coligny” وتُبحر تحت علم جزر مارشال، وقد زارت موانئ إسرائيلية في أشدود وحيفا يومي 11 و13 مايو، أي قبل يومين فقط من إعلان انضمامها للأسطول السعودي.

ورغم أن السفينة قد غيّرت اسمها وهوية تسجيلها، إلا أن سجلات تحركاتها التي وثقتها منصات المراقبة البحرية تؤكد أنها نفذت شحنات لصالح الاحتلال قبل دخولها الخدمة تحت العلم السعودي. هذا وحده يطرح أسئلة محرجة حول مدى تدقيق صندوق الاستثمارات العامة في صفقاته، أو بالأحرى، مدى تواطئه.

شحنات إسرائيلية تحت غطاء سعودي؟

وفق سلسلة تحقيقات نشرها حساب “أبخص” المتخصص في تتبع الأنشطة البحرية المثيرة للجدل، فقد جرى التعاقد على نقل شحنة من اليونان إلى موانئ إسرائيلية عبر السفينة Vega Coligny قبل إعلان السعودية شراءها.

ومن المتوقع أن تكون السفينة قد نفّذت هذا الاتفاق بالفعل أو شرعت فيه قبل تغيير هويتها.

ووفق معلومات حصلت عليها حركة BDS العالمية لمقاطعة إسرائيل، فإن اتفاق النقل كان قائماً منذ أبريل، وكانت السفينة حينها لا تزال مملوكة لشركة أجنبية. لكن رغم إتمام الصفقة السعودية في منتصف مايو، لم يُعرف ما إذا كانت الاتفاقية السابقة قد أُلغيت أم نفّذت تحت المسمى الجديد للسفينة.

وهنا تبرز معضلة قانونية وأخلاقية خطيرة: هل استخدمت السعودية فعليًا إحدى سفنها الجديدة لنقل بضائع إلى إسرائيل، سواء بصورة مباشرة أو ضمن اتفاق سابق؟ وإن لم تفعل، فلماذا لم تصدر شركة “فُلك البحرية” حتى الآن أي بيان توضيحي أو نفي قاطع؟

التطبيع البحري: الجبهة الجديدة للتغلغل الإسرائيلي

ما يثير الريبة أكثر هو أن النشاط التجاري البحري بين الخليج وإسرائيل لم يعد سرًا، بل تحول إلى “مسار رمادي” تُدار فيه الصفقات باسم شركات أجنبية، أو عبر سفن تابعة لجهات ثالثة.

اللافت أن صندوق الاستثمارات العامة، الذي يرأس مجلس إدارته ولي العهد محمد بن سلمان، لم يتورع عن الدخول في هذه الدوامة، على الرغم من الخطاب الرسمي المتكرر حول “دعم القضية الفلسطينية”.

إن صمت الرياض عن هذه الواقعة، رغم ما تحمله من دلالات سياسية خطيرة، يكشف تواطؤًا غير معلن مع مسارات التطبيع الاقتصادي غير المباشر مع إسرائيل، وهو ما يشكل تناقضًا فادحًا مع مواقفها المعلنة.

من ميناء إلى آخر: سلوك مريب وتحركات مموهة

منذ 15 مايو وحتى الآن، تنقلت السفينة “فُلك الدمام” بين عدة موانئ في اليونان، ومصر، والسعودية، والهند، والعراق. وتُظهر سجلات التتبع أنها عبرت قناة السويس باتجاه جدة، ثم توجهت نحو الدمام، قبل أن تنطلق إلى ميناء نافا شيفا الهندي في 10 يوليو.

لكن المريب أن هذه التحركات لم تُرفق بأي شفافية من جانب شركة “فُلك البحرية”. لم يُصدر أي توضيح بشأن طبيعة الشحنات، ولا تم نفي الشبهات المتعلقة بالرحلات السابقة نحو إسرائيل.

ووفق موقع Econdb، من المتوقع أن تُواصل السفينة رحلاتها خلال يوليو وأغسطس بين الهند وميناء “أم قصر” العراقي، لكن تبقى الشكوك قائمة حول احتمال إعادة تفعيل خطوط الملاحة غير المعلنة مع موانئ الاحتلال.

السعودية تُغامر بمصداقيتها… من أجل ماذا؟

قضية “فُلك الدمام” ليست مجرد حادثة عابرة، بل كاشفة لمسار خطير تتبعه الرياض في تطبيعها الزاحف مع إسرائيل عبر الاقتصاد والتجارة، دون إعلان رسمي. وهي نموذج واضح لما يمكن أن يُطلق عليه “تطبيع غير مرئي”، تُدار خيوطه عبر شركات مملوكة للدولة، وتُمرر فيه المصالح على حساب الثوابت.

وفي ظل تزايد الحديث عن صفقة تطبيع محتملة بين السعودية وإسرائيل بوساطة أميركية، فإن مثل هذه التحركات تشكل تمهيدًا ماديًا لما قد يُعلَن سياسيًا في أي لحظة.

ويبقى السؤال: من سمح بإتمام هذه الصفقة دون التحقق من سجل السفينة؟ وأين هي الجهات الرقابية في صندوق الاستثمارات العامة؟ ولماذا لا تزال شركة “فُلك البحرية” تلتزم الصمت حيال الفضيحة؟ ولماذا لم تصدر الخارجية السعودية توضيحًا بعد أكثر من شهرين على الصفقة؟

السعودية أمام اختبار حقيقي. إن استمرار هذا الصمت لا يعني فقط القبول بالتطبيع، بل المشاركة في تبييضه وتمريره عبر بوابات المال والملاحة والشحن، وهو ما يُعد خيانة صريحة لتاريخ طويل من الالتزام – ولو لفظيًا – بالقضية الفلسطينية.

لقد باتت السفن السعودية تنقل أكثر من البضائع. إنها تنقل رسائل سياسية صامتة، لكنها بالغة الدلالة.