تعد فضيحة بدر العساكر مدير مكتب محمد بن سلمان في التجسس على حسابات معارضة ومناوئة للنظام في موقع “تويتر” حلقة من مسلسل طويل من الفشل والفضائح لاحق الدائرة الضيق لولي العهد.
وتم اتهام العساكر بإدارة شبكة تجسس تضم موظفان في شركة “تويتر” هما اللبناني الأميركي أحمد أبو عمو والسعودي علي آل زبارة، بتنسيق وإشراف من الإعلامي السعودي وصانع المحتوى أحمد الجبرين المطيري.
وأعادت هذه الفضيحة تسليط الضوء على العساكر وضرب الصورة التي سعى لأن يرسمها لنفسه في المشهد المحلي والعالمي.
وقدّم بدر العساكر، والذي يعدّ أحد أهم ثلاثة مستشارين يثق بهم محمد بن سلمان، نفسه إلى الإعلام الغربي وإلى المؤسسات المدنية ومجتمع ريادة الأعمال العالمي، كرجل متعلم ومتزن داخل دهاليز أروقة الحكم في المملكة التي تميزت بالطيش واتخاذ القرارات الارتجالية على يد المستشار السابق في الديوان الملكي سعود القحطاني، والمستشار الآخر تركي آل الشيخ، وعدد من الدبلوماسيين الموالين لولي العهد.
لكن سرعان ما تبين أنّ العساكر تورّط في فضيحة تجسس تعدّ الأكبر في تاريخ المملكة، وساهمت في مزيد من تشويه صورة بن سلمان، بعد مقتل الإعلامي السعودي المعارض جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول عام 2018، واعتقال وتعذيب المئات من الناشطين والناشطات داخل سجون النظام.
وبينما كان بن سلمان يتذرع بوجود “فرقة مارقة” قامت بتنفيذ عملية اغتيال خاشقجي وتقطيع جثته، فإنه يجد نفسه في وضع محرج للتبرؤ من أفعال العساكر التي تسببت بحسب معارضين سعوديين، بمقتل أحد المغردين وهو تركي الجاسر، صاحب حساب “كشكول” الذي كشف موظفا “تويتر” المتآمران مع النظام السعودي عن هويته.
وتعرّف العساكر على بن سلمان عام 2006 أثناء اجتماع لغرفة التجارة في العاصمة الرياض، بحسب ما رواه العساكر بنفسه للإعلامي السعودي عبد الله المديفر في برنامج “الليوان”، إذ كان الأمير الشاب قد بدأ تواً في العمل بالتجارة والاستفادة من نفوذ والده الذي كان أمير الرياض حينها لمضاعفة ثروته.
وتطورت العلاقة ليصبح العساكر وكيلاً تجارياً للعائلة ومشرفاً على مؤسسات سلمان بن عبد العزيز وابنه، التي بدأت تتنامى وتكبر ابتداءً من سلسلة المدارس الخاصة التي يمتلكها الأمير والتي تعدّ الأرقى على مستوى البلاد، وانتهاءً بشركات التطوير العقاري الضخمة وأهمها شركة “رافال” التي حولت بن سلمان إلى أحد أهم رجال الأعمال في البلاد.
كما يدير العساكر أصول وثروات بن سلمان ووالده في الخارج، إذ تكرر اسمه بشكل كبير في عدد من الوثائق التي تشير إلى بذخ حياة بن سلمان في شرائه للقصور واليخوت واللوحات الفنية الغالية.
وبعد تولّي الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في البلاد مطلع عام 2015، وتعيين نجله محمد كوزير للدفاع، وتوليه الملفات الاقتصادية والسياسية الكبرى، بدأ العساكر مهمته في بناء فريق إعلامي يروج للأمير الشاب ويحاول تلميع صورته في الطريق لإيصاله إلى كرسي ولاية العهد ومن ثمّ إلى كرسي الحكم.
وتم ذلك عبر مؤسسة “مسك” الخيرية التي استقطبت مئات الإعلاميين والمشاهير الشباب، وقامت بعقد مبادرات ضخمة، حتى وُصفت من قبل الإعلام السعودي بأنها “ذراع ناعمة” للمملكة.
لكن خلف الذراع الناعمة هذه، كانت هناك قبضة من حديد، إذ تبين أنّ مؤسسة “مسك” كانت واجهة لاستخدامات تجسسية ضد الآلاف من الحسابات المعارضة للرياض أو الملك سلمان بن عبد العزيز ونجله.
فقد نجح أحمد الجبرين المطيري بتجنيد اللبناني الأميركي أحمد أبو عمو والسعودي علي آل زبارة للتجسس والوصول إلى أكثر من 6 آلاف حساب على موقع “تويتر” مقابل مكافآت مالية وهدايا قيمة، كما أثبتت تحقيقات المكتب الفيدرالي الأميركي، عقب اعتقال أبو عمو ووضع آل الزبارة والجبرين على قوائم المطلوبين.
وتسلّل الموظفان اللذان يأتمران بأمر بدر العساكر إلى حسابات عدد من المعارضين السعوديين، من أبرزهم المعارض الشاب المقيم في كندا عمر بن عبد العزيز الزهراني، والذي كان مقرباً من جمال خاشقجي.
كما تسببت العملية التجسسية التي رعاها العساكر، بكشف بيانات واعتقال الكاتب تركي الجاسر والذي تقول منظمات معارضة وصحف غربية أبرزها صحيفة “مترو” البريطانية، إنّه تعرض للقتل داخل السجون السعودية بسبب إدارته لحساب وهمي معارض اسمه “كشكول”.
ونجح العساكر في بناء فريق تقني قوي، شبيه بالذباب الإلكتروني الذي قام المستشار السابق في الديوان الملكي سعود القحطاني ببنائه. لكن العساكر بقي طوال الوقت حذراً وغير مندفع كما هو الحال مع القحطاني، إذ كان يخفي نشاطاته بواجهة تطوعية وخيرية كبيرة وهي مؤسسة “مسك” الخيرية.
كما أن لغة خطابه وعدم اندفاعه، وتعاونه مع كبرى المؤسسات التعليمية والأكاديمية في العالم، وإشرافه على زيارات بن سلمان لكبريات الشركات العالمية، أدت إلى بروزه بصورة المستشار الذي يمكن الاعتماد عليه والتحاور معه.
لكن الأمور لم تكن كذلك أبداً، بحسب مصدر إعلامي كان مقرباً من مؤسسة “مسك”، أشار إلى أن العساكر كان يملك فريقه التقني الخاص، والذي يتجسس به على المغردين ويتعامل مع جهاز أمن الدولة المرتبط أصلاً بمكتب بن سلمان الذي يديره العساكر بنفسه؛ ما يعني أنّ الأخير يساهم بشكل كبير في إدارة جهاز أمن الدولة سيئ الصيت، وتسبب بمقتل واختفاء الكثير من المعتقلين.
وقال المصدر إن العساكر أقل اندفاعاً وأكثر جاذبية وابتسامة، ولم يكن على وفاق مع القحطاني بسبب اتباع الأول للأساليب الأمنية السعودية القديمة في الاعتقال والتجسس بدون إثارة ضجة كبرى، فيما كان القحطاني مندفعاً بشكل كبير. وهو ما جعل العساكر يتوقف عن الدفاع عن الهجمات المتكررة على القحطاني في الإعلام العالمي على الرغم من مقدرته على الحد منها بسبب علاقاته الواسعة”.
وتسود خلافات كواليس نفوذ المستشارين داخل أروقة حكم بن سلمان، بين جناحين: جناح القحطاني وجناح العساكر؛ إذ إنّ الذين يعملون تحت إمرة الأول لا يمكنهم العمل مع الثاني إلا إذا طلبهم ولي العهد بالاسم، بالرغم من أنّ القحطاني كان عضواً في مؤسسات محمد بن سلمان الخيرية التي يشرف عليها العساكر بنفسه.
والعساكر كان يحاول تصوير القحطاني وتركي آل الشيخ على أنهما “اليد القذرة”، وأنه يترفع عن الإتيان بأفعالهما، لكن أي شيء من هذا لم يكن صحيحاً.
ولم يمهل الوقت بدر العساكر، حينما تنفس الصعداء بسبب إبعاد القحطاني من المشهد وتقليص صلاحياته بشكل كبير نتيجة ثبوت تورطه بقتل جمال خاشقجي، حتى جاءت فضيحة التجسس تلك، والتي قد تؤدي إلى اتهامه بشكل مباشر بمقتل الصحافي تركي الجاسر، لكنها بحسب المعارض السعودي عبد الله الغامدي لن تكون بحجم فضيحة مقتل خاشقجي وغضبة العالم عليها، وذلك لأن الجاسر كان مجرد صحافي محلي مغمور من وجهة النظر العالمية.
ويُعدّ سعود القحطاني، المستشار السابق في الديوان الملكي ووزير إعلام الظل في السعودية، أحد أبرز الرجال المتساقطين حول بن سلمان، وذلك بعد تورطه المباشر في مقتل خاشقجي.
وساهم القحطاني في الترويج والإعداد لصعود بن سلمان من منصب وزير للدفاع إلى منصب ولي العهد والحاكم الفعلي للبلاد والمتحكم في الاقتصاد والسياسة والجيش والإعلام، وذلك عبر قيامه بالسيطرة على كافة وسائل الإعلام المحلية التي يملكها الأمراء المنافسون ورجال أعمال سعوديون، والإشراف على حملات أمنية قمعية تجاه رموز وأفراد تيار الصحوة، أحد أكبر التيارات الدينية في البلاد، ثم القضاء على الأمراء المنافسين بحجة محاربة الفساد في ما عرف بحملة فندق “ريتز كارلتون”.
كما أشرف القحطاني بشكل مباشر على عمليات التعذيب داخل السجون بحق الناشطين والناشطات في مجال حقوق الإنسان، وفق شهادة عائلة الناشطة النسوية لجين الهذلول، التي قالت إن القحطاني أشرف على تعذيبها وهددها بالقتل داخل أحد السجون السرية التابعة لجهاز أمن الدولة، الذي يعد الأخير من مؤسسيه.
لكن بعد ارتكاب جريمة اغتيال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول 2018، وتصاعد الضغوط الدولية لمحاسبة المتورطين، لا سيما بعد اكتشاف تفاصيل الجريمة وأدوار فريقه، اضطر بن سلمان للإقرار ضمنياً بمسؤولية القحطاني عنها في محاولة منه للتملص منها، ومن ثم تمّت إقالة الرجل من كافة مناصبه وإبعاده عن المشهد العام مع تقديم وعود له بإعادته مرة أخرى إلى الواجهة إذا ما هدأت الأمور.
ولم يكن القحطاني رجل بن سلمان الوحيد الذي سقط بسبب قضية خاشقجي، فمعه سقط نائب رئيس الاستخبارات العامة اللواء ركن أحمد عسيري، الذي أبعد عن المشهد وحُمّل وزر قضية مقتل الصحافي المعارض حماية لبن سلمان أيضاً. وعلى عكس القحطاني، فإن عسيري يخضع للمحاكمة في القضية.
وساهم عسيري في الحملات الأمنية العنيفة التي شنّها بن سلمان ضد خصومه، كما أنه كان المتحدث الرسمي باسم التحالف الذي يشنّ الحرب في اليمن، لكن أهميته تبدو ضئيلة بالنسبة لولي العهد السعودي مقارنة بالقحطاني، ما رجح أنه سيتحمل الوزر الأكبر في القضية التي هزت صورة بن سلمان أمام دوائر صناعة القرار الغربية.
لكن سقوط خالد الفالح، الرجل الاقتصادي النفطي القوي، يُعد من أقوى الضربات التي تلقاها بن سلمان ورؤيته الاقتصادية التي يحاول تسويقها، والتي استخدمها كذريعة للوصول إلى سدة الحكم وتنفيذ حملات القمع تجاه أبناء عمومته من الأمراء والناشطين السياسيين والناشطات الحقوقيات.
واستحدث بن سلمان وزارة الطاقة والصناعة والثروة المعدنية عام 2016 وقام بوضع الفالح كوزير لها، وتولى الأخير في الوقت ذاته مهمة رئاسة شركة “أرامكو” السعودية، كما أنه عيّن كمخطط للتحول الاقتصادي في البلاد من الاعتماد على الصادرات النفطية إلى الاعتماد على الصناعة وقطاع الاستثمار والخدمات التكنولوجية.
وأدى الفالح دوراً مهماً في محاولة جذب رؤوس الأموال الغربية التي يطمح لها بن سلمان، خصوصاً أنه يتمتع بعلاقات كبيرة مع قطاع الأعمال العالمي بسبب مناصبه السابقة التي تولاها في القطاع النفطي السعودي، كما أنه حاول المساهمة في تبرئة اسم بن سلمان من اغتيال خاشقجي لدى قطاع الأعمال ومحاولة إنجاح مؤتمر “دافوس الصحراء” الذي عُقد بعد الجريمة مباشرة، وقوبل بمقاطعة من قبل عدد كبير من رجال الأعمال.
لكن الفالح فشل في مهمته الأساسية، وهي طرح أسهم “أرامكو” في الأسواق العالمية، بسبب تدخلات الملك سلمان المستمرة وإيقافه طرح “أرامكو” أكثر من مرة بعد توصيات من قبل رجال كبار داخل الأسرة الحاكمة.
وتسبّب فشل الفالح في تجاوز أوامر الملك سلمان، إضافة إلى فشله في التحوّل الاقتصادي وفي جلب رؤوس الأموال، وفي قطاعي الصناعة والثروة المعدنية، في قطيعة بينه وبين ولي العهد، الذي حمّله مسؤولية تأخر حلمه في بيع “أرامكو”، ما أدى إلى فصل وزارة الطاقة عن وزارة الصناعة والثروة المعدنية أولاً، ومن ثم إقالة الفالح من شركة “أرامكو” وتعيين محافظ صندوق الاستثمارات العامة، ياسر الرميان، كرئيس للشركة.
ومن ثم تم إبعاد الفالح من منصبه كوزير للطاقة وتعيين أخ الأمير محمد بن سلمان، الأمير عبد العزيز، على رأس هذه الوزارة التي لم يسبق لأمير من الأسرة الحاكمة توليها.
وفي ظل ميل بن سلمان للتضحية بالرجال المحيطين به وتحميلهم المسؤولية عند وقوع أي خطأ، فإنه من المتوقع أن يستمر سقوط أفراد من فريقه.