ينظر الساسة الأميركيون لتوجهات المملكة العربية السعودية، في اجتماعات “أوبك بلس” الأخيرة ونتائجها، باعتبارها إهانة للرئيس الأميركي جو بايدن الذي زار الرياض في يوليو الماضي، وينهمكون في تحديد الخطوات المناسبة للتعامل مع المملكة في مؤشر على بدء فصل جديد من التوتر بين الطرفين.
وقال مركز البيت الخليجي للدراسات والنشر إنه رغم مسارعة الرياض لتبرير الأمر، يصعب على المرء الاقتناع بأن الاتفاق على وضع سقف للإنتاج في اجتماع “أوبك بلس” كان تقنيًا محضًا بعيدًا عن الحسابات السياسية.
فالطاقة، منذ اكتشاف النفط، كانت سلاحًا في بناء التحالفات وتوجيه الرسائل السياسية على المستوى الدولي. ولم تكن روسيا أول دولة تستخدم الطاقة كسلاح ضد الغرب خلال الحرب الحالية في أوكرانيا.
في السياق، يصعب هضم الاتهام الأميركي للسعودية باختيارها الانحياز لروسيا في الصراع بقدر ما يُفهم الموقف السعودي في اجتماع “أوبك بلس” أنه يتسق ونظرة المملكة لنفسها كدولة يتنامى نفوذها في عالم يوشك على الدخول في ركود اقتصادي هائل.
وحاليا، تمر العلاقات السعودية الأميركية في منعطف حرج. ولعل أبرز الملفات الشائكة هما الملفان الإيراني واليمني:
في الملف الإيراني، يزداد القلق السعودي حيال ما تراه الرياض من تضاؤل للاهتمام الأميركي بأمنها مع إمكانية العودة للاتفاق النووي المبرم مع إيران عام 2015.
لا سيما أن المحادثات النووية تتصل ببرنامج إيران النووي فقط، ولا تتصدى للتهديدات الأمنية التي يشكلها حلفاء طهران ووكلاؤها على المصالح السعودية وتوجهاتها في الشرق الأوسط.
وعلى الرغم من أن المحادثات النووية مجمدة حاليًا لما بعد الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة، في 8 نوفمبر القادم، إلا أن الرياض تشعر بالتوجس من تقديم واشنطن تنازلات في الجولات القادمة.
ولا سيما أنه سبق وأن تجاهلت المطالب السعودية المتكررة من اشراكها في المحادثات أو أخذ مصالحها بالاعتبار خلالها.
في الملف اليمني، لا يختلف الحال كثيرًا لجهة التباين في الموقفين. التدخل الأميركي في اليمن بشكل مباشر يعود لعام 2002 حين بدأت بشن ضربات عسكرية ضد قيادات تنظيم القاعدة.
وحين انطلقت عاصفة الحزم التي تقودها السعودية، في 26 مارس 2015، لإنهاء نفوذ الحوثيين في البلاد التي انزلقت الى حرب داخلية واسعة، اقتصر الدور الأميركي على توفير الدعم اللوجستي والاستخباري بالتزامن مع الضغط على الرياض للمساهمة في خلق تسوية سلمية وانهاء الاقتتال بين الفصائل اليمنية المتناحرة.
لم تضعف قوة الحوثيين بالشكل الذي كانت تأمله الرياض حين انطلقت غاراتها الجوية على معاقل الجماعة، بل أصبحت الأراضي السعودية هدفا أساسيا للحوثيين بلغ ذروته، في 19-20 مارس 2022، مع استهداف الجماعة منشآت متعقلة بالطاقة في جيزان وينبع وظهران الجنوب وخميس مشيط.
وهكذا ازداد الاستياء السعودي من الحليف الأميركي الذي لم يشكل المظلة الأمنية المناسبة لحماية المنشئات الحيوية السعودية من الاستهداف.
وإزاء الملفين السابقين، هناك من يشير إلى قضية قد تبدو شديدة الدلالة في التأثير، وهي افتقار العلاقة بين الرئيس جو بايدن وولي العهد السعودي محمد بن سلمان للكمياء الملائمة.
وفي هذا يُرجع الدبلوماسي الأمريكي السابق آرون ديفيد ميلر، الباحث الأول في مؤسسة “كارنيغي” للسلام الدولي- وفقًا لما نقل عنه موقع CNN بالعربية- السبب المباشر في توتر العلاقات السعودية الأميركية إلى صعود ولي العهد الذي برز “باعتباره قاسيًا.. وشخصًا يخضع حكمه فيما يتعلق بمصالح الولايات المتحدة والسياسة الخارجية الأمريكية للتساؤل” على حد وصفه.
وخلال ترشحه للرئاسة، كان جو بايدن يتحدث عن السعودية كبلد معزول دولياً، ثم بعد شهر واحد من وصوله للبيت الأبيض، في فبراير 2021، سمح بنشر تقرير الاستخبارات الأميركية عن مقتل الصحفي جمال خاشقجي.
حينها بدت العلاقة وكأنها شرعت في اتخاذ منحى تصاعدي، تبعه تصريح بايدن، في أكتوبر 2021، حين ربط ارتفاع أسعار النفط لمستويات قياسية بالسعودية و”الكثير من الأشخاص في الشرق الأوسط الذين يريدون الحديث معه”.
ثم جاءت الحرب الأوكرانية لتعيد خلط الملفات من جديد، ويجد بايدن نفسه، في يوليو/تموز من العام الجاري، متجها بطائرته الرئاسية إلى الرياض للقاء الملك ونجله ولي العهد.
كانت الخطوة انتصارًا واضحًا لشخص بن سلمان أكثر مما كانت لبايدن الذي اتضح أنه تراجع عن كثير من تعهداته خلال حملته الانتخابية.
يبدو بن سلمان ينظر بعين الريبة للرئيس الأميركي ويرى -وبفارق السن – أن الزمن يتجاوز بايدن، وأن العلاقة مع الولايات المتحدة لا تقوم على الشراكة مع شخصيات قد تتبدل بعد كل استحقاق انتخابي.
وبناء عليه، فإن توجيه رسائل لواشنطن في توقيت مناسب لا ضير فيه كي تكون أكثر حذرا في التعاطي مع مصالح الرياض، ولا توقيت لتوجيه الرسائل أفضل من حرب الطاقة التي تشنها روسيا، واقتراب الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة التي تعيش على مخاوف التضخم وارتفاع أسعار الوقود.
وبحسب الباحث بروس ريدل من معهد “بروكينغز” -وفقًا لما تنقل عنه وكالة فرانس برس- فإن “ارتفاع أسعار النفط كان بمثابة تدخّل انتخابي واضح من جانب ولي العهد (السعودي) نيابة عن حزب دونالد ترامب الجمهوري”.
والسعودية، منذ تولي الملك سلمان الحكم عام 2015، بدت راغبة بإجراء عملية تقييم العلاقة مع الولايات المتحدة والتي يُنظر لها في الغرب أنها “علاقة زبائنية” قائمة على مبدأ “النفط مقابل الأمن”، تضمن فيه الرياض تدفق النفط إلى الأسواق العالمية وخاصة الأميركية في حين تتكفل الولايات المتحدة بأمن المملكة وإبرام صفقات السلاح الضخمة معها.
الأمريكيون بدورهم يتحدثون عن ضرورة إعادة تقييم العلاقة بما يتسق مع مصالح الولايات المتحدة وتبدل أولوياتها وبروز تحديات جديدة لها على المستوى الدولي.
فالولايات المتحدة التي أصبحت أقل اعتمادًا على نفط الشرق الأوسط، ليس لها مصلحة في دعم الصراعات الداخلية أو حروب الوكالة بين إيران والسعودية.
وبروز الصين كلاعب استراتيجي على المستوى الدولي، والحرب الروسية في أوكرانيا، وخطورة أسلحة الدمار الشامل، هي ملفات أصبحت أكثر أهمية لواشنطن من قضايا الشرق الأوسط طالما أن “اتفاقات أبراهام” بين إسرائيل والدول العربية تتعمق يومًا بعد آخر.
ليست الخطورة التي تمر بها العلاقة بين الرياض وواشنطن بتلك التي يصعب التنبؤ بمآلتها. فقد سبق أن مرّت العلاقات بينهما بمراحل حرجة في أوقات مختلفة من قبل، إلاّ أنها بقيت ثابتة وعصية على الانهيار، ولم تسلك خطًا مستقيمًا منذ لقاء الرئيس الأمريكي فرانكلين دي. روزفلت مع الملك عبد العزيز على متن السفينة يو.إس.إس كوينسي في قناة السويس عام 1945.
فمن أبرز منعطفاتها: حظر النفط على الغرب خلال حرب 1973، هجمات الحادي عشر من سبتمبر أيلول 2001، تخلي واشنطن عن حليفها التاريخي الرئيس حسني مبارك خلال ثورة يناير 2011، والموقف الأميركي عمومًا من أحداث ما أُطلق عليه “الربيع العربي”.
وقد تؤخر واشنطن تسليم الرياض- على سبيل العقاب لنتائج “أوبك بلس”- معدات دفاعية أو تتشدد في إنفاذ صفقات سلاح جديدة، كما أن الرياض قد تذهب باتجاه الصين أو فرنسا أو غيرهما لعقد شراكات وصفقات عسكرية، لكن الجميع يدرك أن انفكاك الاعتماد السعودي على السلاح الأميركي يحتاج لعقد أو أكثر.
وإذا كانت واشنطن ترى أن قاعدة “النفط مقابل الأمن” لم تعد بذات الأهمية مع تراجع الحاجة لنفط الشرق الأوسط، فعليها أن تعترف أن الحاكم الفعلي للمملكة اليوم يختلف عن القادة السابقين الذين كانوا أكثر حذرًا في سياساتهم الخارجية، فوليّ العهد الشاب حريص على البروز كرجل قوي في الداخل، وأكثر حرصًا على نيل الاعتراف والتقدير والدعم المناسب من واشنطن.
وهو لا يخفي رؤيته في أن مكانة بلاده وتنامي نفوذها الإقليمي وظهور دول منافسة لواشنطن على الساحة العالمية يتطلب من الرياض إعادة النظر في العلاقة بما يتناسب مع حجم مصالحها ومكانتها. وهو ما بدأته المملكة، حيث اتخذت-في عهده- مواقف أكثر جرأة ووضوحا في ملفات إقليمية ودولية طالما حاول من سبقه النأي بالمملكة عن هذا الاتجاه.
ما تريده الرياض مزيد من الصلابة الأميركية في مواجهة إيران ووكلائها في حروب هجينة تزداد خطورة يوما بعد آخر، واستمرار الدعم الأميركي في الحرب اليمنية، والتغاضي عن ملفات حقوق الانسان باعتبارها أمورًا داخلية.
في المقابل، يتطلب الأمر من واشنطن إعادة تقييم الصلة مع الرياض بمرونة أكبر والقبول بعلاقة أقرب إلى الندية من التبعية المطلقة، فأساس المصالح قائم على المنافع المتبادلة في عالم شديد التغيير والتقلبات.