طوابير الكحول في الرياض: ليبرالية انتقائية تُرضي الأثرياء وتُقصي المجتمع

في مشهد كان حتى وقت قريب يُعدّ من المستحيلات في بلاد الحرمين، اصطفت طوابير من السيارات والأشخاص أمام متجر غير معلَّم لبيع الكحول في الحي الدبلوماسي بالرياض.
المشهد، الذي انتشر همساً قبل أن يتحول إلى حديث واسع في الأوساط الدبلوماسية والإعلامية، لا يعكس مجرد تغيير إداري محدود، بل يكشف جوهر التحول السعودي القائم على ليبرالية انتقائية تخدم فئة محددة من الأجانب الأثرياء، فيما يُترك المجتمع المحلي خارج المعادلة.
فمن دون إعلان رسمي، وسّعت السلطات السعودية نطاق الوصول إلى متجر الكحول الوحيد في البلاد، الذي افتُتح في يناير/كانون الثاني 2024 حصراً للدبلوماسيين غير المسلمين، ليشمل الآن فئة جديدة: الأجانب غير المسلمين الحاصلين على «الإقامة المميزة».
وجاءت هذه الخطوة، التي بدت محسوبة بعناية، في إطار مساعي المملكة لتقديم نفسها كوجهة جاذبة للاستثمار والسياحة والنخب العالمية، حتى لو تطلّب ذلك كسر واحد من أكثر المحرّمات رسوخاً في تاريخ الدولة الحديثة.
والسعودية، التي تحظر الكحول منذ أوائل خمسينيات القرن الماضي وتُعرّف نفسها باعتبارها حاضنة الحرمين الشريفين، تحاول اليوم السير على حبل مشدود بين خطاب ديني محافظ في الداخل، ورسائل انفتاح موجهة للخارج.
لكن ما يجري في متجر الكحول بالرياض يفضح هذا التناقض: الانفتاح ليس حقاً عاماً، بل امتياز طبقي محكوم بالثروة والجنسية والمكانة.
اللافت أن التوسيع لم يُعلن عبر بيان حكومي، بل تسرّب تدريجياً، ما يعكس حساسية القرار وخشية السلطات من ردود فعل داخلية. ومع ذلك، انتشر الخبر بسرعة، لتتشكل طوابير طويلة أمام المنفذ السري تقريباً، في مشهد يُذكّر باقتصادات الندرة لا باقتصادات «رؤية 2030» المعلنة.
وإجراءات الدخول إلى المتجر تكشف بدورها طبيعة الدولة الأمنية التي لم تتغير، رغم كل شعارات التحديث. فالتفتيش الجسدي إلزامي، والهواتف والكاميرات محظورة، وحتى النظارات تُفحص للتأكد من أنها ليست ذكية. وكأن السلطة تريد أن تقول: نعم، نسمح بالكحول، لكن تحت أعيننا الكاملة، ومن دون أي أثر بصري أو رمزي قد ينتقل إلى الفضاء العام.
وأشار الزبائن، الذين تحدثوا لوكالة «أسوشيتد برس» بشرط عدم الكشف عن هوياتهم، إلى أسعار مرتفعة وتشكيلة محدودة، في حين يُعفى الدبلوماسيون من الضرائب، بينما لا يتمتع حاملو الإقامة المميزة بهذا الامتياز. حتى هنا، تتجلى الهرمية الصارمة: امتيازات داخل الامتيازات.
ويأتي هذا التحول في سياق أوسع من السياسات التي يقودها ولي العهد محمد بن سلمان، والتي تشمل فتح دور السينما، وتنظيم حفلات موسيقية ضخمة، والسماح للنساء بالقيادة.
غير أن هذه «الليبرالية» تتوقف دائماً عند حدود السياسة. فالتعبير السياسي والمعارضة ما زالا مجرّمين، والعقوبات قد تصل إلى الإعدام، في تناقض صارخ بين انفتاح اجتماعي محسوب وقمع سياسي مطلق.
الأكثر دلالة أن الكحول لا يزال محظوراً على عامة السعوديين. فبينما يُسمح للأجانب الأثرياء بشراء النبيذ والويسكي داخل الرياض، يضطر المواطنون والمقيمون الآخرون للسفر إلى البحرين أو دبي، أو اللجوء إلى التهريب أو التصنيع المنزلي الخطِر. الرسالة واضحة: ما هو محرّم على المواطن قد يصبح مسموحاً للأجنبي الثري إذا خدم صورة الدولة واقتصادها.
تاريخياً، لم يكن حظر الكحول في السعودية قراراً فقهياً مجرداً، بل جاء بعد حادثة سياسية وأمنية عام 1951، حين قتل الأمير مشاري نائب القنصل البريطاني في جدة وهو في حالة سُكر.
اليوم، وبعد أكثر من سبعين عاماً، تعود الكحول إلى المملكة، لا بوصفها حقاً فردياً، بل كأداة اقتصادية وتجريبية لاختبار «التحديث من الأعلى».
في النهاية، لا تكشف طوابير الكحول في الرياض عن انفتاح حقيقي، بل عن نموذج سعودي جديد: دولة تُعيد تعريف الممنوع والمسموح وفق حسابات الاستثمار والصورة الدولية، لا وفق عقد اجتماعي شفاف. إنها ليبرالية للأثرياء، وصمت إلزامي للبقية.



