يعد رجل الاستخبارات السابق في السعودية سعد الجبري مخزن الأسرار يخشاه ولي العهد محمد بن سلمان ويلاحقه باستمرار وصل حد اعتقال أبنائه من أجل ابتزازه.
ومن بين مئات السعوديين الذين فرّوا إلى الخارج عقب الحملات الأمنية التي شنّها بن سلمان في السنوات الأخيرة ضد الناشطين الحقوقيين والدعاة الإسلاميين والمفكرين والأدباء والمسؤولين الحكوميين السابقين، يمثل سعد الجبري الذراع اليمنى لولي العهد السابق محمد بن نايف، مصدر قلق متواصل لولي العهد.
يأتي ذلك نظراً لأدوار الجبري الأمنية السابقة التي أتاحت له الاطلاع على العديد من أسرار العائلة الحاكمة، والتي لا يزال يحتفظ بها. وهو ما جعل بن سلمان لا يوفر وسيلة للضغط عليه لإعادته إلى المملكة بما في ذلك اعتقال اثنين من أبنائه وأحد أشقائه.
ويعتقد بن سلمان أن بإمكانه استخدام الوثائق الموجودة بحوزة الجبري ضد منافسيه الحاليين على العرش، بما في ذلك معلومات عن أرصدة وممتلكات لبن نايف في الخارج، خصوصاً أن ولي العهد يسعى لتوجيه تهم تتعلق بمزاعم فساد لبن نايف خلال الفترة التي كان الأخير يتولى فيها وزارة الداخلية.
كما أن بن سلمان يخشى من أن تتضمن الوثائق معلومات إضافية قد تمسّه هو ووالده الملك سلمان بن عبد العزيز، وذلك بحسب ما أكدت مصادر مطلعة على القضية لوكالة رويترز أخيراً.
وهو ما دفع بن سلمان إلى منع أبناء الجبري من السفر وتجميد حساباتهم، واعتقال ابنيه عمر (21 عاماً) وسارة (20 عاماً) في منتصف شهر مارس/آذار الماضي بالتزامن مع اعتقال بن نايف، وذلك للضغط على والدهما للعودة إلى البلاد وتسليم نفسه.
وشغل الجبري، الموجود حالياً في كندا بعدما انتقل إليها من الولايات المتحدة تحسباً لاحتمال تسليمه إلى السعودية، مناصب عدة على مدى عقود.
وفضلاً عن كونه وزير دولة سابقاً وعضواً في مجلس الوزراء، فإنه كان المسؤول الأول عن جهاز الاستخبارات السعودي أثناء تولي الأمير محمد بن نايف مقاليد وزارة الداخلية قبل سنوات، إضافة إلى عمله مستشاراً أمنياً وحلقة وصل بين الأمير محمد بن نايف وأجهزة الاستخبارات الغربية.
ولد سعد بن خالد الجبري في عام 1958 في مدينة حائل، شمالي البلاد، والتي كانت عاصمة لإمارة آل الرشيد، المنافس التاريخي لأسرة آل سعود على حكم منطقة نجد والجزيرة العربية لعقود، لأسرة حضرية من الطبقة المتوسطة التي استعانت بها الأسرة الحاكمة السعودية لتسيير شؤون البلاد.
وحصل الجبري على بكالوريوس العلوم الأمنية من كلية الملك فهد الأمنية في الرياض عام 1979 وعمل بعدها ضابطاً في وزارة الداخلية، غير أن طموحه أعاده للدراسة مرة أخرى في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فنال درجة البكالوريوس في اللغة العربية عام 1983، ثم حصل على دبلوم في برمجة الحاسبات الآلية في العام التالي من معهد الإدارة العامة في الرياض.
وأكمل الجبري دراسته الأكاديمية بحصوله على شهادة الماجستير في تخصص علوم الحواسب الآلية من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، ثم حصل على شهادة الدكتوراه من قسم الذكاء الاصطناعي في جامعة أدنبرة في اسكتلندا عام 1998.
في الجانب العملي، تدرّج الجبري من ضابط صغير إلى رتبة لواء في وزارة الداخلية، لافتاً أنظار الأمير محمد بن نايف، الذي كان قد عُيّن مساعداً لوالده الأمير نايف، وزير الداخلية آنذاك في عام 1999، فشكّل الجبري وبن نايف ثنائياً أمنياً أعاد بناء وزارة الداخلية السعودية من جديد.
وهو ما كشفه المدير السابق للاستخبارات الأميركية “سي آي إيه” جورج تينيت، لصحيفة “واشنطن بوست” الأميركية في مايو/أيار الماضي، بقوله إن الجبري ساهم في بناء جهاز الاستخبارات السعودي، الذي كان بدائياً، مُدخلاً التطورات التقنية، خصوصاً بعد إعلان تنظيم “القاعدة” الحرب ضد السعودية عام 2003.
وقام الجبري ببناء شبكة من المخبرين داخل تنظيم “القاعدة” وبقية التنظيمات الجهادية، مساهماً من خلالها بتجنيب دول غربية عدداً من الهجمات التي كان يُخطط لها.
كما تولى ملفات استخباراتية أخرى في اليمن والعراق، وساهم في “الحرب على الإرهاب”، وأصبح شريكاً أساسياً لقادة الأجهزة الاستخباراتية العالمية، وأداة وصل بينها وبين الأمير محمد بن نايف الذي شكل ضعف لغته الإنكليزية عائقاً في تواصله المباشر مع نظرائه الغربيين.
وصُنف الجبري من قبل تينيت ومايكل موريل، القائم السابق بأعمال وكالة الاستخبارات الأميركية في عهد باراك أوباما، بأنه كان مصدر ثقة للاستخبارات الأجنبية، لا سيما بسبب دوره في مواجهة تداعيات هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وهو ما جعله هدفاً لتنظيمات جهادية.
واستمر نجم الجبري بالصعود في ظل تقدم راعيه الأساسي الأمير محمد بن نايف داخل دوائر الحكم السعودي. ومع تولي بن نايف مقاليد وزارة الداخلية عام 2012 أصبح الجبري المتحكم الأساسي فيها بسبب ثقة بن نايف به واعتماده التام عليه.
وبات الجبري مسؤولاً عن جميع الملفات الأمنية الخاصة بالوزارة، ووصلت قوته إلى حدّ تعيين الضباط وتسريحهم بحسب ولائهم له ولمحمد بن نايف.
وبعد وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز مطلع عام 2015، وتولّي الملك سلمان مقاليد الأمور وتعيين الأمير محمد بن نايف كولي لولي العهد، ترقى الجبري ليصبح وزيراً للدولة وعضواً في مجلس الوزراء، إضافة إلى استمرار إحكام قبضته على وزارة الداخلية وتوليه ملفات استخباراتية إقليمية.
وبدأ سقوط الجبري عقب اعتراضه على شن الأمير محمد بن سلمان، وزير الدفاع آنذاك، حرباً على اليمن من دون استشارة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التي كان يقودها، ويعرف من خلالها موازين القوى داخل الأراضي اليمنية الوعرة.
وبعد اجتماع للجبري مع رئيس الاستخبارات الأميركية جون برينان عام 2015 بتوجيه من ولي العهد ووزير الداخلية آنذاك محمد بن نايف، خطط بن سلمان لإزاحة الجبري نهائياً كونه عقبة أساسية في طريقه للاستيلاء على منصب ولاية العهد، وإبعاد بن نايف من المشهد السياسي.
وفوجئ الجبري في سبتمبر 2015، أي بعد أشهر فقط من تعيينه وزيراً للدولة، بقرار ملكي نصّ على إبعاده من مناصبه كافة، من دون إبلاغه مسبقاً بفحوى القرار، بل عرف به من وسائل الإعلام.
وحاول بين عامي 2015 و2017 بصفته مقرباً من ولي العهد، حث الأمير محمد بن نايف على اتخاذ خطوات أكثر حزماً لحماية وزارة الداخلية، التي بدأ بن سلمان السيطرة على إداراتها وإقالة الضباط الموالين لبن نايف، لكن الأخير كان متردداً في اتخاذ قرارات قد تغضب ولي ولي العهد محمد بن سلمان.
ومع تسارع مؤشرات توجه بن سلمان لتشديد قبضته على الحكم وتبنيه نهجاً متهوراً في علاقاته الداخلية والخارجية، تعلل الجبري برغبته في قضاء العطلة الصيفية خارج البلاد منسحباً بهدوء، فتنقّل بين عدد من العواصم، قبل الإعلان عن عزل الأمير محمد بن نايف من منصبه ولياً للعهد في أواخر شهر يونيو/ حزيران 2017.
وهو الأمر الذي دفع الجبري للانتقال من الولايات المتحدة إلى كندا خوفاً من أن يسلّمه الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى السعودية. وحاول بعض أبناء الجبري اللحاق بوالدهم مرات عدة، لكن السلطات السعودية منعتهم من السفر وضغطت عليهم لإجبار والدهم على العودة.
وقدمت السلطات السعودية طلبات عدة لكندا بغية تسليم سعد الجبري بحجة اتهامه بـ”الفساد المالي”، إلا أن الحكومة الكندية رفضت تسليمه. وهو ما جعل السلطات السعودية تعتقل ابنه وابنته في شهر مارس الماضي في منزلهما في الرياض، واعتقلت أيضاً شقيقه عبد الرحمن وهو أكاديمي متقاعد.
وبعد اعتقال ابنه وابنته وتهديد بن سلمان لهما، اختار الجبري وابنه خالد، الذي يعمل طبيباً في كندا، القيام بحملة إعلامية ضد السلطات السعودية. وعزز امتلاك الجبري وثائق مهمة عن محمد بن سلمان ووالده، إضافة إلى عمله السابق مع الأسرة الحاكمة وعلاقاته القوية مع الأجهزة الأمنية الغربية مصداقيته في وجه بن سلمان، ما جعل كبرى الصحف العالمية تكتب عنه وتعرض قضيته.
لكن على الجانب الآخر، لم يكن سعد الجبري ملاكاً بحسب ما يحاول تصوير نفسه في الصحافة الغربية، إذ يتهمه معارضون سعوديون بالإشراف على عمليات اعتقال وتعذيب الناشطين الحقوقيين والإنسانيين المعارضين لحكم أسرة آل سعود خلال فترة إشرافه على وزارة الداخلية.
وطالب معارضون سعوديون كندا بعدم منحه حق اللجوء السياسي نتيجة ماضيه الأمني، الذي تسبب فيه بتعذيب المئات من المعتقلين.