لم يُهدِّد أي حدث قيادة محمد بن سلمان مثلما فعل مقتل جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في أكتوبر/تشرين الأول 2018 وسط تساؤلات حول ماذا كسب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من حماية ولي العهد.
وحوَّلت الواقعة المروعة الحاكم الفعلي للسعودية إلى شخص منبوذ دولياً؛ إذ توجهت الشخصيات السياسية والمدراء التنفيذيين لكبرى الشركات لإلغاء اجتماعاتهم معه أو تأجيلها، وإعلان محققي الأمم المتحدة مقتل خاشقجي “جريمة دولية”، حسبما ورد في تقرير لصحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية.
وأثبت قرار الرئيس ترامب بدعم الزعيم الشاب في الأشهر التي تلت اغتيال خاشقجي أنه حاسمٌ في استعادة مكانة ولي العهد وتحسين صورة المملكة العربية السعودية المُشوَّهة.
وقال ترامب عن محمد بن سلمان، حسبما جاء في كتاب جديد للصحفي المخضرم بوب وودوارد: “لقد أنقذته. لقد تمكنت من إقناع الكونغرس بتركه وشأنه”.
والمردود الذي حصل عليه ولي العهد واضح: فقد هدأ الغضب إلى حد كبير، وأصبح ولي العهد يتعامل بانتظام مع النخبتين السياسية والمالية في العالم.
لكن الفوائد التي عادت على إدارة ترامب ليست واضحة على الإطلاق؛ إذ لا تزال الحكومتان على خلاف حول مجموعة من القضايا الاقتصادية والأمنية والسياسية في الذكرى الثانية لوفاة خاشقجي، وفقاً للصحيفة الأمريكية.
وقال ديفيد أوتاواي، الخبير في الشأن السعودي في مركز ويلسون بواشنطن: “السعوديون كانوا في الغالب مصدر إزعاج لهذه الإدارة، على الرغم من دعمها لمحمد بن سلمان. ما لم تكن صانع أسلحة، فلن تقدم هذه العلاقة إلا سلبيات، وليس إيجابيات”.
ولطالما دافع الرئيس ترامب عن قراره بالحفاظ على العلاقات مع السعودية باعتبارها وسيلة لحماية مبيعات الأسلحة بمليارات الدولارات بين البلدين كل عام. وقال ترامب للصحفي وودوارد: “لقد أرسلوا 400 مليار دولار خلال فترة زمنية قصيرة”، في إشارة إلى الصفقات التي أُبرِمَت قبل رحلته الأولى إلى السعودية في عام 2017.
لكن طلبات شراء الأسلحة الفعلية من السعودية تراجعت بكثير عن 400 مليار دولار، ولا تستطيع أيٌ من الحكومتين إثبات من أين جاء هذا الرقم.
لكن بخلاف مبيعات الأسلحة، عانت إدارة ترامب لكسب تعاون السعودية في عددٍ من القضايا المُلِحة بين البلدين.
وأبرز مثال على ذلك هو طلب الولايات المتحدة إجراء تحقيق موثوق في مقتل خاشقجي.
وفي سبتمبر/أيلول الماضي، أعلن المدعي العام السعودي أنَّ 8 أشخاص حُكِم عليهم بالسجن لمدد تتراوح بين 7 سنوات و20 سنة بتهمة القتل. وأُغلِقَت جلسات المحكمة أمام الجمهور.
ولم يُحاسَب أي من كبار المسؤولين المتورطين في محاكمة قالت خبيرة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة المُكلَّفة بالتحقيق في جريمة القتل، أغنيس كالامارد، إنها “افتقرت إلى الشرعية القانونية والأخلاقية”.
وقدَّم وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، الذي وعد منذ فترة طويلة بالكشف عن حقيقة مقتل خاشقجي، ملاحظة مقتضبة للصحفيين يوم الجمعة، 2 أكتوبر/تشرين الأول، أقر فيها بذكرى وفاة خاشقجي.
وقال بومبيو: “ليس لدي الكثير لأحدثكم به. لقد حاكم السعوديون الآن حفنة من الناس. ونواصل الضغط عليهم للتأكد من أننا نحصل على أكبر قدر ممكن من النتائج، ومحاسبة كل مسؤول عن ذلك”.
وإلى جانب التقصير في الاستجابة لطلب الولايات المتحدة بإجراء محاكمة ذات مصداقية، تحدَّت الحكومة السعودية أيضاً إدارة ترامب في العديد من الجوانب الأخرى المهمة للعلاقة الثنائية.
ففيما يتعلق بمسألة حظر انتشار الأسلحة النووية، أصيبت إدارة ترامب بالإحباط من تعنت الرياض ضد توقيع اتفاقية تشمل ضمانات دولية قوية حول برنامجها النووي المدني وتحظر تخصيب اليورانيوم.
ويخشى المسؤولون الأمريكيون من أنَّ غياب مثل هذا الاتفاق قد يُشعِل فتيل سباق تسلح نووي في الشرق الأوسط، أحد أكثر مناطق العالم اضطراباً. وأعربت وزارة الخارجية الأمريكية عن معارضتها “انتشار التخصيب وإعادة معالجة” الوقود النووي، وحثت الحكومة السعودية على إبرام اتفاق.
إضافة إلى ذلك، هناك خلاف بين البلدين بشأن حصار قطر، التي تستضيف أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة. وناشد ترامب شخصياً القيادة السعودية لإنهاء الخلاف في الخليج، الذي دخل عامه الرابع الآن، لكن قطع الطرق البرية والجوية والبحرية إلى الدولة الصغيرة لا يزال قائماً؛ مما يحبط جهود التعاون الإقليمي.
وفيما يبدو طلباً أسهل للتلبية، طلب ترامب من السعوديين منح حقوق الملاحة الجوية للخطوط الجوية القطرية حتى تتوقف شركة النقل الوطنية عن دفع 180 مليون دولار سنوياً لإيران في صورة رسوم للتحليق في مجالها الجوي، خاصة أنَّ إدارة ترامب تسعى للضغط على طهران اقتصادياً. لكن لم يتوصل البلدان لاتفاق، بالرغم من الجهود المنسقة في العداء لإيران.
علاوة على ذلك، لطالما كان التعاون في مجال الطاقة بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية -موطن ثاني أكبر احتياطيات نفطية في العالم- نموذجاً يُستشهَد به للعلاقة الوثيقة القائمة على أساس منطقي. لكن طفرة الطاقة الأخيرة في أمريكا حوَّلت الحليفين إلى متنافسين.
ففي فصل الربيع، أثار السعوديون غضب الجمهوريين في واشنطن بإرسال حشود من ناقلات النفط إلى الولايات المتحدة فيما اعتبره الكثيرون محاولة لإغراق أسواق النفط الأمريكية بالنفط الرخيص. وشعرت شركات الطاقة المحلية والمُشرِّعون الأمريكيون بالغضب لدرجة أنهم حثوا ترامب على فرض رسوم جمركية على الحليف الغني بالنفط.
وفي هذا السياق، قال أوتاواي: “حاول السعوديون إخراج شركات النفط الصخري الأمريكية من السوق. فقد اضطرت الكثير من الشركات للإغلاق مما أثار مشكلة كبيرة”.
وفي اليمن، يواصل دعم إدارة ترامب المباشر وغير المباشر للتحالف الذي تقوده السعودية ربط الولايات المتحدة بأسوأ كارثة إنسانية في العالم. وتلقي إدارة ترامب باللوم رسمياً على إيران لدعمها المتمردين الحوثيين، لكنها سعت في الوقت نفسه إلى حل دبلوماسي للصراع.
إلى جانب ذلك، لم تخدم السعودية مهام صهر الرئيس جاريد كوشنر مثلما توقع العديد من المسؤولين الأمريكيين أن تفعل.
فمنذ وصول ترامب إلى السلطة، كان كوشنر هو الرجل الأساسي الذي يتعامل مع ولي العهد. وكانت الفرضية الأبرز وراء الحملة الطموحة للإدارة لإبرام “صفقة القرن” بين الإسرائيليين والفلسطينيين هي أنَّه بالإمكان الاستفادة من علاقة كوشنر الوثيقة مع الزعيم السعودي لإيصال الفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات.
لكن بالرغم من العلاقة المقربة بين كوشنر وولي العهد السعودي، لم تتحقق “صفقة القرن” على أرض الواقع بعد أن أجبرت الإدارة الأمريكية الفلسطينيين على ابتلاع العديد من التنازلات التي اعتبروها خطوطاً حمراء، بما في ذلك اعتراف الولايات المتحدة بالسيطرة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان، ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وإغلاق مكتب التمثيل الفلسطيني في واشنطن.
وسعى كوشنر إلى إقناع السعودية بالانضمام إلى البحرين والإمارات في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، لكن يبدو الحصول على مثل هذا الالتزام من الرياض بعيد المنال وسط مخاوف بشأن كيفية نظر المؤسسة العامة والدينية السعودية لتدشين علاقات أوثق مع إسرائيل.
وفي حين نجحت إدارة ترامب في الحفاظ على تدفق مستمر للأسلحة إلى السعودية، تسبب هذا العنصر من العلاقة أيضاً في إزعاج للمسؤولين الذين مضوا قدماً في إتمام المبيعات برغم اعتراضات الكونغرس. وأصبح بومبيو، الذي أصدر أمراً طارئاً العام الماضي لتمرير صفقة مبيعات أسلحة للسعودية بقيمة 8.1 مليار دولار، هدفاً لتحقيقات المفتش العام حول ما إذا كان هذا التصرف غير لائق.
وأثار الغضب بشأن ما اعتُبِر على نطاق واسع على أنه سلسلة من الانتكاسات في العلاقة الثنائية دعوات لمرشح الرئاسة الديمقراطي جو بايدن لعكس مسار التعامل مع السعوديين في حالة فوزه على ترامب في الانتخابات.
وفي هذا السياق، قال بروس ريدل، الخبير في الشأن السعودي في معهد بروكينغز: “يتمتع بايدن بفرصة فريدة لتحويل علاقة مُختلَّة من أساسها مع السعوديين. نحن لسنا بحاجة إلى نفطهم. لسنا بحاجة إلى حربهم في اليمن”.