في خضم العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كثف مسؤولون سعوديون حديثهم عن إمكانية تطبيع بلادهم مع إسرائيل من بوابة حل الدولتين.
ويرفق المسئولون السعوديون تصريحاتهم بدباجة مكررة عن شرط اتخاذ إسرائيل خطوات ملموسة إرساء أسس “حل الدولتين”، أو رهنهم التطبيع بوجود أفق لدولة فلسطينية ذات سيادة عاصمتها القدس الشرقية.
ومنها قول رئيس الاستخبارات السعودية الأسبق تركي الفيصل في لقاء مع قناة “الإخبارية” السعودية الحكومية في 31 ديسمبر/كانون الأول 2023، “إن قيادتنا مواقفهم ثابتة بالنسبة للقضية الفلسطينية، أن الحل يجب أن يبدأ بإيجاد دولة فلسطينية ذات سيادة عاصمتها القدس الشرقية، وتتمتع بكل مواصفات الدولة”.
وفي مقابلة مع شبكة “بي بي سي” البريطانية في 9 يناير/كانون الثاني 2024، أكد السفير السعودي في لندن، خالد بن بندر بن عبد العزيز، أنّ بلاده “لا تزال مهتمة بالتطبيع مع إسرائيل بعد انتهاء الحرب على غزة”، وأن ذلك “لن يكون على حساب الفلسطينيين”، موضحا أن أي اتفاقية تطبيع قادمة “يجب عليها أن تسفر عن إقامة دولة فلسطينية”.
وأكد وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، في خلال جلسة نقاشية في منتدى دافوس العالمي المقام في سويسرا، في 16 يناير/كانون الثاني 2024، أن المملكة ستعترف بإسرائيل إذا تم حل القضية الفلسطينية، وتبع ذلك بتصريح لشبكة NBC NEWS كية على هامش المنتدى، بأن بلاده كانت قريبة من تطبيع مع إسرائيل قبل حرب غزة.
وخلال ندوة ضمن المنتدى ذاته قالت سفيرة السعودية في الولايات المتحدة كية ريما بنت بندر آل سعود، في 18 يناير/كانون الثاني 2024، إن المملكة لم تضع التطبيع بجوهر سياستها بل الأمن والسلام، والحل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو “حل الدولتين”.
صفعة إسرائيلية
وبينما تحاول الرياض إظهار التزامها الشكلي بالقضية الفلسطينية ويبدي مسؤوليها تمسكا صوريا بحل الدولتين وإنهاء الحرب بغزة، قال رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يعاني انخفاضا حادا في شعبيته، خلال مؤتمر صحفي في قاعدة كيريا العسكرية بتل أبيب في 18 يناير/كانون الثاني 2024، إنه أبلغ أميركا معارضته إقامة دولة فلسطينية.
وأضاف أنه تعين على إسرائيل السيطرة على كامل المنطقة من “البحر إلى النهر”، متابعا أن “عقود الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لا تتعلق بغياب دولة فلسطينية، بل بوجود دولة يهودية.. في كل الأراضي التي أخليناها نحصل على إرهاب، إرهاب رهيب ضدنا”.
وعقب 24 ساعة من تصريح نتنياهو، قال الرئيس كي جو بايدن، عقب مهاتفته نتنياهو، إن الأخير لا يعارض جميع حلول الدولتين، وأضاف ملمحاً إلى إمكانية قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح: “هناك عدد من الأنماط الممكنة إذ أن بعض الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ليس لديها قوات مسلحة”.
لكن نتنياهو نفى في بيان نادر صادر من مكتبه، أن يكون قد أبلغ بايدن بإمكانية قيام دولة فلسطينية؛ وأوضح البيان أن نتنياهو كرر في الاتصال الهاتفي الذي أجراه مع الرئيس بايدن موقفه المنسق منذ سنوات، والذي أعرب عنه أيضا خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده قبل يومين.
وأضاف أن هذا الموقف مفاده أنه “بعد القضاء على حماس، يجب على إسرائيل الاحتفاظ بسيطرة أمنية كاملة على قطاع غزة، من أجل الضمان بأن غزة لم تعد تشكل أي تهديد على إسرائيل، وهذا يصطدم مع المطالبة بسيادة فلسطينية”.
التطبيع هدفا
وأكد خبراء وناشطون وأكاديميون أن الحديث عن حل الدولتين والترويج للعودة لمسار المفاوضات وما يسموه بقضايا الحل النهائي وغيرها من الحلول الأخرى التي يقترحها الاحتلال والإدارة كية، مجرد أساليب خادعة ومسكنات تستهدف تمرير التطبيع مع بعض الدول العربية وعلى رأسها السعودية، معربين عن استيائهم من الحديث عن نزع السلاح.
وقال العضو المؤسس لحزب التجمع الوطني يحيى عسيري، إن المتعجرف بايدن يُلمح إلى دولة فلسطينية منزوعة السلاح، فلسطين بلا جيش، ويسعى لتطبيع سعودي لترميم إسرائيل المنهارة بعد الحرب، وأكد أن أميركا هي من تقود المعركة، والسعودية ذيل، مشددا على أن “التطبيع خيانة وهو بعد اليوم انتحار”.
وقال الأكاديمي العماني الدكتور طالب المعمري، إن بايدن يتحدث باسم إسرائيل واتفاقاتها مع الدول لنعلم بأن رأس الصهيونية هي أمريكا وما دولة الصهاينة في الشرق سوى أداة الفتنة وسبيل الاحتلال للدول العربية جميعا بما يسمى التطبيع مع هذا الكيان الذي يعيث الفساد في الأرض، وكل من يعترف بهذا الكيان هو واحد ممن يعين الغرب على احتلال أمتنا.
وأكد الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني ياسر الزعاترة، أن اللعبة الجديدة التي لعبها الرئيس كي بحديثه عن حل الدولتين بعد اتصاله بنتنياهو هدفها الأهم هو التطبيع السعودي واستئناف مسار “السلام الاقتصادي”، وذلك عبر إطلاق “عملية تفاوضية” عنوانها الوصول إلى “حل الدولتين”، قائلا: “الكل يدرك أن ذلك لن يحدث، وأنها لعبة استدراج جديدة”.
فيما قال السياسي والكاتب الفلسطيني مصطفى البرغوثي، إن حديث بايدن عن دولة فلسطينية وما يسميه “حل الدولتين” دون الموافقة على وقف إطلاق النار فورا في قطاع غزة ودون الدعوة لإزالة الاستيطان، ودون تحديد حدود ومضمون الدولة الفلسطينية هو ذر للرماد في العيون، ومحاولة لتمرير التطبيع مع استمرار الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني.
وأشار المستشار السياسي لشبكة قنوات الجزيرة عاطف دلقموني، إلى تصريح السفير السعودي في بريطانيا وقوله إن “السعودية يمكن أن تطبع مع إسرائيل في حال وجود أفق لدولة فلسطينية”، قائلا إن ما يفعله بايدن ونتنياهو هو إيجاد ذلك الأفق حتى يتم التطبيع وجعل ما يكون هناك دولة فلسطينية.
شواهد ودلالات
وعن تناقض تصريحات المسؤولين السعوديين حول التطبيع مع الموقف الفعلي للسلطة التي تحاول أن تقيم علاقات مع الاحتلال، قالت الناشطة السعودية والباحثة هالة الدوسري، إن الحكم الحقيقي يكون على تحليل المواقف السياسية عبر الإعلام والزيارات الخاصة والتنسيق الأمني في ملفات الاستخبارات والتصفيات والثورات المضادة.
وأوضحت في سلسلة تغريدات سابقة لها على حسابها بمنصة إكس دونتها في أبريل/نيسان 2020، إن تحليل المواقف السياسية تعكس شواهد مهمة، منها اعتقالات رموز فلسطينية في الخليج وتصفية بعضهم ومناهضة دعم الشعب الفلسطيني إعلاميا، ومقابلة بن سلمان للوبي الصهيوني في نيويورك ومحاولة الترويج لقيادته اللوبي الصهيوني كي.
وعرضت الدوسري، خبر عن زيارة خاصة لابن سلمان للوبي الصهيوني كي وبعضا من الآراء المساندة التي أظهرها لموقف إسرائيل، مشيرة إلى زيارة وفد اليمين كي المتعاطف مع إسرائيل لابن سلمان، والتي تظهر أنه لا توجد عداوة حقيقية للمملكة من اللوبي الصهيوني أو حلفاؤه.
وأكدت أن تقديم خطاب دولي في الندوات والاجتماعات الخاصة متناقض مع الخطاب المحلي الرسمي له فائدة سياسية للحفاظ على شرعية النظام وحلفاءه بحسب المستهدف من الخطاب، ولذلك مهم في كل موقف سياسي معلن تحليله بالنظر لكافة مؤشرات التوجه السياسي، خصوصا مع تسيس الإعلام وتوظيفه لتوجيه الوعي الشعبي.
وقالت الدوسري: “أدرك أنه من الصعب قراءة أي موقف سياسي محلي وصعوبة فهم دوافع أي موقف لانعدام شفافية المعلومات وحرية الوصول لها، لكن على الأقل يمكن بناء فهم أعمق لمواجهة خطابات التضليل”، موضحة أنها لا تعني الإدانة أو الدعوة لمقاطعة المقابلات السياسية بين المسؤولين من كل الأطراف.
وبينت أن الأمر يعتمد على الهدف من هذه المقابلات وهل هو دعم لموقف شعبي من قضية فلسطين أو البحث عن دعم حليف سياسي لابن سلمان بغض النظر عن الإرادة الشعبية أو الموقف الأخلاقي منه، مؤكدة أن موقف القيادة السعودية من حق الفلسطينيين في تقرير المصير لن يغير من نضالهم التاريخي أو المستقبلي، وربما يضاعف معاناتهم.
وحذرت من أن موقف السلطة من حق الفلسطينيين في تقرير المصير سيفقد الثقة في قيادة السعودية المعنوية والروحية للمنطقة وسيمنح زخما لقوى أخرى في المنطقة لتولي هذه المكانة، مؤكدة أن الصوت الأهم والمركزي في قضية فلسطين يجب أن يكون لشعبها (للمتضررين من الاحتلال) ودورنا دعمهم أولا.
وأوضحت أن ذلك الدعم لا يتم بالترويج لاتفاقيات السلام السياسية العربية أو الدولية ولا لموقف السياسيين في بيئات لا تمثل إرادة الشعوب، لأن هذا بالنهية عمل لا جدوى منه.