
كشف موقع ستراتفور الأميركي، وهو أحد أبرز المراكز الاستخباراتية التحليلية في العالم، عن صورة قاتمة تفضح حقبة ولي العهد محمد بن سلمان، معتبرًا أن السنوات الأخيرة من حكمه تمثل “أكثر الفترات استبدادًا في تاريخ المملكة الحديث”، وأن ما يسمى رؤية 2030 لم تكن سوى واجهة براقة تخفي خلفها عملية مركزة خانقة للسلطة وقمعًا غير مسبوق للمعارضة.
وبحسب تقرير ستراتفور، فإن رؤية ابن سلمان — التي رُوّج لها عالميًا باعتبارها خطة تحويلية للاقتصاد والمجتمع — جاءت بنصف أهداف اقتصادية قابلة للقياس، ونصف آخر من الوعود الطوباوية التي لا تمتلك أي مؤشرات أداء أو آليات تقييم.
ومن بين هذه الوعود الفضفاضة، تعهّد النظام بتحويل السعودية إلى “مجتمع نابض بالحياة”، وهو مصطلح يصفه التقرير بأنه “شعار ترويجي أكثر منه خطة إصلاح حقيقية”.
ورغم الضجيج الإعلامي المصاحب لخطة ابن سلمان، يشير ستراتفور بوضوح إلى أن غياب الأهداف السياسية داخل الرؤية لم يكن مجرد سهو أو نقص في الصياغة، بل كان قرارًا محسوبًا ومقصودًا.
فالرؤية تجنبت تمامًا أي التزامات تتعلق بالإصلاح السياسي، أو توسيع المشاركة الشعبية، أو تحديث منظومة الحكم، بما يتعارض مع الوعود التي أعطتها المملكة سابقًا خلال عهد الملك عبدالله.
ففي العقد الأول من الألفية، استخدم الملك عبدالله الانتخابات المحلية كآلية لتخفيف الضغوط الواقعة على النظام الملكي، ولإحداث توازن بين السلطة التنفيذية والمجتمع.
لكن ابن سلمان، كما يؤكد التقرير، قرر إغلاق هذا الباب بالكامل، والانسحاب من أي مسار إصلاحي سياسي، لصالح عقلية حكم تقوم على “الاستحواذ الكامل على السلطة وتجفيف الفضاء العام”.
ويشير التقرير إلى أن حقبة ابن سلمان اتسمت منذ لحظتها الأولى بتجفيف المنابر وتصفية الأصوات المستقلة، وتزامن ذلك مع حملة غير مسبوقة في تاريخ السعودية، حين قام النظام بجمع العشرات من كبار الأمراء والمسؤولين ورجال الأعمال داخل فندق الريتز كارلتون بالرياض عام 2017.
ويصف ستراتفور تلك العملية بأنها “نقطة التحول الكبرى التي وجّهت رسالة صريحة إلى الداخل والخارج: من اليوم فصاعدًا، السلطة المطلقة محصورة في يد رجل واحد”.
ويذكّر التقرير بأن هذه الحملة لم تكن معزولة، بل تبعتها موجات واسعة من الاعتقالات والملاحقات التي استهدفت الأكاديميين، والناشطين المدنيين، ورجال الدين، والمثقفين، ووجوهًا معارضة في الداخل والخارج.
ويؤكد أن النظام السعودي كان يسعى، تحت ذريعة “الإصلاح”، إلى تفريغ المجال العام من أي أصوات يمكن أن تشكل بديلًا، أو حتى انتقادًا محدودًا، لقيادة ابن سلمان.
ويشدد ستراتفور على أن الهدف الفعلي لرؤية 2030 لم يكن اقتصاديًا بحتًا كما أُعلن للجمهور، بل كان “هندسة سياسية” شاملة لإعادة تشكيل الدولة السعودية بما يضمن استمرار مركزية القرار في يد ولي العهد، وتحييد أي قوى قد تعترض على مساراته.
ويقول التقرير بوضوح إن النهج المتّبع يشكل “قطيعة كاملة مع مفهوم الإصلاح” الذي تبناه النظام السعودي في فترات سابقة.
ويشير التقرير إلى مفارقة واضحة: بينما كانت السعودية تسوّق للعالم صورة دولة تتجه نحو الحداثة والانفتاح الاقتصادي والترفيهي، كانت في الوقت نفسه تحوّل جهاز الدولة إلى قبضة أمنية مطلقة، وتعيد هندسة المجتمع على قواعد الطاعة والولاء، وليس على المشاركة أو المساءلة.
ويؤكد ستراتفور أن غياب أي التزام سياسي في رؤية ابن سلمان لا يقل أهمية عن وجود الأهداف الاقتصادية فيها، إذ يؤشر هذا الغياب إلى أن القيادة السعودية الجديدة ليست معنية ببناء نموذج حوكمة حديث، بل بفرض هندسة اجتماعية تُبقي المجتمع بعيدًا عن القرار الفعلي.
ووفق التقرير، فإن هذا التوجه يجعل من “رؤية 2030” مشروعًا سلطويًا بامتياز، لا مشروع تحول اقتصادي كما يُروّج.
ويعزز التقرير تأكيده بالإشارة إلى أن كل الإجراءات التي اتخذها ابن سلمان منذ صعوده تعكس نهجًا واحدًا: تجريد مراكز القوة التقليدية — الدينية، الاقتصادية، القبلية، والعائلية — من أي تأثير، وحصر القرار بالكامل داخل الديوان الملكي الذي بات يتمحور حول شخص ولي العهد وحده.
ويرى ستراتفور أن هذا السيناريو خطير على المدى الطويل، لأنه يخلق دولة بلا توازنات، ونظامًا بلا آليات تصحيحية، ومجتمعًا بلا أدوات تعبير.
ويؤكد الموقع الاستخباراتي أن السعودية تدخل “أعمق موجاتها الاستبدادية منذ تأسيسها”، وأن حقبة ابن سلمان ليست انتقالًا نحو الانفتاح كما يعتقد البعض، بل عودة مقنّعة إلى نمط حكم فردي مطلق، يستبدل فيه النظام أدوات الشرعية التقليدية بأدوات الردع الأمني والاستعراض الاقتصادي.
ويشير التقرير إلى أن هذا النموذج، مهما بدا صلبًا الآن، يظل هشًا أمام أي صدمة سياسية أو اقتصادية مستقبلية، لأن قوته تقوم على شخص واحد لا على مؤسسات، وعلى القمع لا على التوافق، وعلى السيطرة لا على المشاركة.
ويخلص ستراتفور إلى أن “السعودية اليوم تعيش زمنًا يسطع فيه وهج المشاريع الكبرى، لكن في ظلاله تتآكل السياسة، وتُخنق الحريات، ويتحول الوطن إلى شركة يديرها فرد، لا دولة يحكمها شعب”.