يجمع مراقبون على أن لائحة الاتهام التي أصدرتها النيابة العامة في تركيا مؤخرا بشأن قتلة الصحفي البارز جمال خاشقجي مطلع تشرين أول/أكتوبر 2018 تثبت الإدانة السياسية لولي العهد محمد بن سلمان بالتورط في الجريمة.
وتضمنت لائحة الاتهام التي أصدرها المدّعي العام التركي 20 متهماً في جريمة قتل خاشقجي شملت طلب الحبس المشدد والمؤبد لنائب رئيس الاستخبارات السابق أحمد عسيري، وسعود القحطاني المستشار السابق في مكتب بن سلمان، إضافة إلى فريق التنفيذ المؤلف من 18 متهماً بقيادة الضابط في الحرس الملكي، ماهر مطرب.
وبدت اللائحة لافتة من حيث الشكل والمضمون، سياسياً وقانونياً في ظل رفض الحكومة التركية
قبول الإغراءات، وتسوية القضية سياسياً ودبلوماسياً، أو التعاطي إيجاباً مع المحاكمة السعودية الصورية، وعدم سعيها إلى عرقلة التحقيق وإيقافه، بل تقديم كل الدعم اللازم للنيابة العامة، من أجل القيام بمسؤولياتها المهنية باحترافية ودقة وصبر.
من الناحية السياسية، تترجم لائحة الاتهام ما اعتبرته تركيا ديناً تجاه عائلة المرحوم خاشقجي، عبر تعقب الجناة ومحاسبتهم، كما تعبر عن قناعاتها بأن العدالة لا تتحقق إلا من خلال المحكمة الوطنية والدولية.
والخطوة الأولى باتت على الطريق الصحيح، في انتظار الخطوة الثانية، المتمثلة بإجراء محاكمة دولية للمتهمين لإجبار الرياض على التعاون مع التحقيق، وصولاً إلى تسليم المتهمين، أو السماح باستجوابهم بحرية وشفافية من دون ضغوط.
في مضمون لائحة الاتهام، تأكيد على العمل المهني الاحترافي الدقيق والصبور، حيث جرى خلال عام ونصف العام تقريباً الاستماع إلى 55 شاهداً، بينهم خديجة جنكيز خطيبة خاشقجي، إضافة إلى مكالمات هاتفية ومراجعة كاميرات المراقبة وتحقيقات ميدانية مباشرة، للحصول على أدلة من مسرح الجريمة، أي مبنى القنصلية السعودية ومنزل القنصل محمد العتيبي ومؤسسات ومبان أخرى ذات صلة.
ولذلك، لا يمكن التشكيك أبداً في مهنية التحقيقات أو نزاهتها وشفافيتها، خصوصاً أن محاكمة المتهمين ستكون علنية أيضاً، ومستوفية الشروط والمتطلبات القانونية، بحضور منظمات دولية حقوقية معنية.
وأهم ما في اللائحة يتمثل بتوجيه الاتهام إلى أحمد عسيري وسعود القحطاني، لإعطائهما أوامر القتل الهمجي المتعمد عن سبق إصرار وترصد، بناء على تسجيلات لاتصالات هاتفية بينهم وبين فريق التنفيذ.
وهذا يعني إغلاقاً للدائرة وإيجاداً للحلقة المفقودة وإجابة عن السؤال عمن أصدر الأوامر للفريق، لاستحالة أن يتوجه فريق موظفين رسميين من الرياض إلى إسطنبول على متن طائرات مستأجرة رسمياً من نظام آل سعود، من دون علم مسؤولين سياسيين رفيعي المستوى وتورّطهم.
ويبدو أن الأدلة لا تسمح، حتى الآن، بتوجيه الاتهام رسمياً إلى بن سلمان، الأمر الذي قد يكون مرتبطاً بالتحقيق الدولي الرسمي، من أجل استجواب العسيري والقحطاني ومساءلتهما عمّن أعطاهما الأوامر والتعليمات، لتكليف فريق التنفيذ بارتكاب الجريمة بهذه الطريقة البشعة.
وهذا لا ينفي أن الإدانة السياسية بحق بن سلمان قد وقعت، ليس فقط لتورّط مسؤولين وموظفين في ديوانه، وتابعين له مباشرة، وإنما أيضاً لتحكّمه التام بمقاليد السلطة في السعودية. وبالتأكيد، تحول طبائع الاستبداد دون تصرف أي موظف، من دون أوامر الحاكم بأمره.
وتمثل لائحة الاتهام خطوة مهمة جداً، إذ باتت المحاكمة حتمية ومسألة وقت، ومنوطة بالإجراءات الروتينية المعتادة، خصوصاً بعد إصدار مذكرات اعتقال حمراء للمتهمين عبر الأنتربول الدولي، ما يمثل تعبيراً إضافياً عن تصميم تركيا على القيام بواجباتها الأخلاقية والقانونية تجاه جريمةٍ ارتكبت على أراضيها، وبما يتناقض مع اتفاقية فيينا الناظمة للعمل الديبلوماسي.
وبدا لافتاً جداً ومعبراً تعليق المقرّرة الأممية لحالات الإعدام خارج نطاق القضاء أغنيس كالامارد، التي أجرت تحقيقاً غير رسمي، لصالح مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، خلصت بعده إلى ضرورة إجراء تحقيق دولي رسمي، ومحاكمة دولية للمتهمين في تركيا أو خارجها، مع انتقاد طريقة التعاطي السعودي مع القضية برمتها، وإشادة في المقابل بالإدارة التركية لها سياسياً وقانونياً.
وقرأت كالامارد لائحة الاتهام بمهنية، ولخصت ملاحظاتها ببلاغة في ثلاث نقاط: التأكيد على الخلفية السياسية للجريمة، لجهة تحديد من أعطى الأوامر، ولا يمكن الاكتفاء بمحاكمة المنفذين في جريمة اغتيال صحافي صاحب رأي ووجهة نظر من دون علاقة أو مشكلة شخصية معه.
ويمثل ذلك رداً ملائماً على محاكمة نظام آل سعود الصورية التي هدفت إلى إقفال الملف، وليس تحقيق العدالة، كونها افتقرت إلى الشفافية والعلنية، وقامت بتبرئة متهمين من دون تحقيقات وافية وشاملة، وهدفت أساساً، إضافة إلى حماية بن سلمان، إلى نفي أي طابع أو إطار سياسي للجريمة.
وتتمثل الملاحظة الثالثة في انسجام لائحة الاتهام التركية مع التزامات تركيا بالقانون الدولي، وواجباتها ومسؤولياتها تجاه الجريمة التي ارتكبت على أراضيها، وتتويجاً للعمل المهني والدقيق للنيابة العامة والأجهزة التركية المختصة، وهو ما أشادت به كالامارد دائماً.
في كل الأحوال، تمثل لائحة الاتهام خطوة مهمة على طريق إبقاء القضية حية، وكي لا يتم طيّها، وستكون بالتأكيد محاكمة علنية شفافة، وأحكام غيابية طبعاً، ما يبقي السيف مسلطاً على رقاب المتهمين، في انتظار إحقاق العدالة بشكل عملي.
من جهتها علقت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية على لائحة الاتهام التركية بأن اقتراب التحقيق التركي من نهايته يعني أن منظور تحقيق العدالة أصبح قاتما.
وأكدت الصحيفة أن الجهود متواصلة لتحميل نظام آل سعود مسؤولية قتل خاشقجي، إلا أن معاقبة المجرمين تظل احتمالا ضعيفا.
وقالت الصحيفة إن الدعوات لإجراء تحقيق دولي في قضية قتل خاشقجي لم تحقق أي تقدم حتى الآن، فيما يشكك دعاة حقوق الإنسان بقضاء آل سعود وقدرته على معاقبة المشبته بتورطهم بالجريمة.
وسبق أن توصلت وكالة الاستخبارات الأمريكية (سي آي إيه) إلى مسؤولية محمد بن سلمان عن جريمة قتل خاشقجي بشكل مباشر.