تتوالى انتكاسات ولي العهد “محمد بن سلمان” حتى أتخم بها سجله منذ توليته العهد, ليصبح الإخفاق سمة تلتصق بشخصه.
والبحث عن سبيل لبن سلمان ولبلاده للخروج من اليمن، فما هي إلا إشارة منه عن لجوء قادة المملكة للأوروبيين من أجل المساعدة على إنهاء هذا النزاع، فحربهم التي قالوا إنها لن تستمر أكثر من أسابيع، يقضون فيها على الحوثيين، امتدت سنواتٍ، وانتقلت معاركها إلى داخل أراضي المملكة، حاملةً التهديد إلى كيانهم.
ولم يحظَ الخبر الذي أوردته “رويترز” عن رغبة ولي العهد في الخروج من اليمن، باهتمامٍ بقدر ما حظي تحليل صحيفة نيويورك تايمز بشأن عجز المملكة عن مواجهة إيران.
ويتقاطع الخبران مع بعضهما من جهة ظهور توجُّهٍ لدى المملكة لإيقاف الحرب على اليمن، بسبب كلفتها العالية، وما ثبت لهم، أخيراً، بعد الهجمات على منشآت شركة أرامكو السعودية، من إمكانية نقل معاركها إلى داخل أراضي المملكة بسهولةٍ لم يتوقعها قادتها.
ومن غير المعروف إن كان هدف الانسحاب أمرا ذاتيا، يسعى إليه بن سلمان، أم هو فعلاً موضوعي بسبب ما ثبت عن ضعف الرياض في المواجهة العسكرية وعدم قدرتها على مقارعة إيران.
وتفيد كل المعطيات بأن صورة المملكة، قبل حرب تحالفها على اليمن، هي غير صورتها بعد سنوات من هذه الحرب التي بيَّنت هشاشة منعتها، على الرغم من فرط تسلُّحها.
وكانت وكالة رويترز قد نقلت، قبل أيامٍ، عن مسؤول أوروبي قوله “إن ولي العهد “بن سلمان وقادة المملكة لا يتنازلون في موضوع الحريات والحقوق في بلادهم” محمد بن سلمان يريد الخروج من اليمن، ويجب إيجاد سبيل له للخروج مع حفظ ماء الوجه”.
وإذ يركِّز كلام المسؤول الأوروبي على موضوع اليمن، فإن الوقائع تشير إلى مطبَّات كثيرة أوقع فيها بن سلمان نفسه، وتحتاج إلى أيادٍ كثيرة تمتدُّ إليه لتساعده على الخروج منها حافظاً ماء وجهه.
ولكن ومع حلول الذكرى الأولى لاغتيال الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول، ومع ثبوت تورّط بن سلمان في الجريمة حين أقر، في حديثه لبرنامج 60 دقيقة، قبل أيام، بمسؤوليته، غير المباشرة، عنها، كونه قائداً في المملكة، تشير هذه الواقعة، وحجم التدخل الأميركي الكبير، والذي فشل في تخريجه منها وإبعاد الشبهة عنه، إن أي محاولةٍ لحفظ ماء وجهه، ستبقى ناقصة.
قال ترامب، وكرّر مراراً، إن “على السعودية أن تدفع إذا أرادت أن ندافع عنها”.
وقد دفعت المملكة كثيراً, إذ لم يتوقف سيل الأموال عن التدفق من الرياض إلى واشنطن، منذ مجيء ترامب إلى البيت الأبيض، وتولي بن سلمان ولاية العهد بعد إطاحة ولي العهد محمد بن نايف، قبل سنتين. وللمفارقة، لم يجعل هذا السيل الذي فاض أميركا تدافع عن الرياض، وهو الأمر الذي تبدّى في عدم حماية واشنطن منشآت شركة أرامكو، جوهرة التاج السعودي، من هجمات الحوثيين العسكرية التي طاولتها، في 14 سبتمبر/ أيلول الماضي، وأخرجت قسماً كبيراً من منشآتها في بقيق وخريص من الخدمة، وهدّدت دولا كثيرة في إمداداتها من النفط.
أما حديث “نيويورك تايمز”، في 4 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، عن عجز السعودية عن مواجهة إيران في المنطقة، والكلام الذي تسرّب عن طلب المملكة مساعدة أطراف في المنطقة، خصوصاً باكستان والعراق، في التوسّط بينها وبين إيران من أجل تهدئة الخلافات، وتسوية المشكلات العالقة بينهما، لهو دليل آخر على ضعف تكويني في المملكة، عجزٌ وضعفٌ لا يتناسبان مع الصورة التي تحاول الظهور فيها، قوةً إقليميةً في المنطقة، فاعلةً ومؤثرةً وقادرةً بالتالي على قيادة الآخرين.
وهذه أيضاً معضلةٌ ضاغطةٌ على قادة المملكة التي جرت الوقائع بعكس ما اشتهوا، بحيث ثبت أن نصف قرن من التسلح الذي صرفت خلاله مئات مليارات الدولارات، وأحلافاً استهلكت جهد المملكة وعلاقاتها، وأثرت على صورتها بين الدول المجاورة من أجل بنائها، قد ذهبت جميعها هباءً، وظهر عقمها أمام أسلحةٍ بدائيةٍ استخدمها الحوثيون، وهزوا فيها عرش آل سعود، كما لم تستطع أن تفعل حوادث سبقتها.
وهذه بحد ذاتها يعد الخوض فيها نسفاً لأي محاولةٍ لحفظ ماء وجه بن سلمان الذي بدأ عهده بإبرامه أكبر عقود التسلح والاستثمار في تاريخ السعودية والولايات المتحدة، ولم تسعفه في حماية حدود بلاده من اختراقات “الدرون” الحوثي.
وعلى الرغم من كل ما ذُكر، لم يفت الأوان أمام بن سلمان لحفظ ماء وجهه، ولم يعدم كل السبل لتبييض صورته، فأمامه الانسحاب من اليمن بطريقهٍ تظهره صانع سلام، ولكنه سبيلٌ مكلفٌ
إذ يمكن للأوروبيين الذين يبحثون عن سبيل لخروجه، نصحه بعقد اتفاق مع الحوثيين، ينص على وقفٍ شاملٍ لإطلاق النار، وهو ما يجري الحديث عنه هذه الأيام، للتأسيس لمرحلة سلامٍ دائمٍ وثابتٍ في هذه البلاد.
ويمكنهم توجيهه، في هذا الإطار، إلى عقد مؤتمر مصالحةٍ يحضره جميع أطراف الصراع في اليمن، تكون بلاده الضامن لتطبيقه من أجل تسوية جميع الخلافات بينها.
ولتعزيز المصالحة، يدعو هذا الأمير إلى عقد مؤتمر دولي للدول المانحة لإعادة بناء اليمن، تتحمّل فيه بلاده، والدول التي شنَّت الحرب على اليمن، القسطَ الأكبر من التكاليف.
ولكن، هل حرب اليمن الحدث الوحيد الذي يؤثر على صورة بن سلمان، والذي يستدعي مساعدة الغرب لحفظ ماء وجهه لدى إنهائها, من الواضح أن بن سلمان وقادة المملكة لا يتنازلون في موضوع الحريات والحقوق في بلادهم.
وما قضية خاشقجي، وقضية الاعتقال التعسفي الذي طاول ناشطات مدافعات عن حقوق المرأة وحقوقيين وكتابا ودعاة، والحكم بإعدام عددٍ منهم، على الرغم من الإدانات الدولية، سوى الدليل على عدم استعداد قادة المملكة للتنازل في هذا الملف.
ومن هنا، ستبقى محاولات بعضهم تبييض صورة بن سلمان قاصرة، ما دام هذا الأخير يوغل كل يومٍ في ممارساتٍ، تلحق بها السواد.