لعل أحد أهم أسباب تراجع اقتصاد المملكة وفقدانه مليارات الدولارات، خلال السنوات القليلة الماضية، هو الفساد المستفحل في المملكة وإهدار الأموال العامة، خاصة من قبل ولي العهد محمد بن سلمان، كما يقول مراقبون.
وبعد اعتقال السلطات للعشرات من رجال الاعمال والأمراء, بزعم محاربة الفساد, إلا أن كثيراً من التقارير تتحدث عن غرق المملكة بمستنقع من الفساد, وسوء في الادارة وإهدار الأموال العامة.
وكان الحريق الضخم الذي شب الأحد الماضي، في محطة قطار الحرمين، في مدينة جدة غربي المملكة، أحد أحدث المؤشرات على استشراء الفساد في المملكة؛ فالقطار الذي دخل بالخدمة قبل عام واحد فقط، استمر العمل في إنشائه نحو 10 أعوام كاملة، وبلغت تكلفته 7.3 مليارات دولار.
وذكرت وسائل إعلام سعودية أن الحريق تسبب في إيقاف رحلات القطار الذي يربط بين مكة المكرمة والمدينة المنورة.
وأعلن أمير منطقة مكة المكرمة، خالد الفيصل، الاثنين الماضي، تشكيل لجان للتحقيق في حادثة الحريق بمحطة القطار.
وقال الفيصل في زيارته إلى موقع الحريق: “صدرت عدة أوامر بتشكيل عدة لجان؛ وزارة الداخلية تحقق، وإمارة منطقة مكة المكرمة تحقق، ونحن ننتظر نتائج هذه التحقيقات واللجان”.
وذكر أنه سيتم رفع نتائج التحقيقات للملك سلمان بن عبد العزيز، مشدداً على أن “القضية كبيرة وليست بالسهلة”.
وسارع مغردون سعوديون للمطالبة بالتحقيق في أسباب الحريق، وإحالة الشركات التي شغّلت المحطة إلى مكافحة الفساد.
إحدى أبرز التغريدات حول ذلك كانت من مواطن سعودي يدعى محمد صادق، حيث قال: “يوجد فساد كبير في مشروع قطار الحرمين السريع في جدة.
هناك إهمال كبير من قبل المسؤولين والشركات التي كانت قائمة على مشروع محطة قطار الحرمين بشأن أنظمة الأمان وإطفاء الحريق الأوتوماتيكي”.
وأضاف: “الشركات أهملت هذه الأنظمة من أجل توفير ملايين الريالات السعودية التي نهبها المسؤولون لحساباتهم الخاصة”.
وأشار إلى أن المبالغ المنهوبة من مشروع محطة قطار جدة تقدر بملياري ريال سعودي (530 مليون دولار).
وذكر صادق أنه تقدم في سنة 2018 بشكوى إلى النيابة العامة السعودية بشأن هذا الفساد، ولكن لم يستمع له أحد.
وأكد المستشار محمد صادق، الموظف السابق في المشروع، أن لديه كافة الأوراق التي تثبت كلامه، وقد فُصل من عمله في المشروع، في سنة 2018؛ بسبب ما قام به من تقديم شكوى بشأن الفساد.
يذكر أن الأعمال في قطار الحرمين بدأت عام 2009، وكان يفترض أن يفتتح رسمياً عام 2012، غير أن تشغيله تأجل أكثر من مرة، وانطلقت أولى رحلاته التجارية في أكتوبر 2018؛ من المدينة المنورة إلى جدة.
وبلغت تكلفة خط السكك الحديدية لقطار الحرمين 6.7 مليارات يورو (7.3 مليارات دولار)، ويقطع مسافة 450 كيلومتراً، ويربط مدينتي مكة المكرمة والمدينة المنورة بمدينة جدة المطلة على البحر الأحمر.
حريق قطار الحرمين ليس أول حدث يكشف عن وجود فساد وسوء إدارة وإهدار بالأموال العامة في المملكة، فقبل نحو عامين غمرت السيول الناتجة عن الأمطار الغزيرة أحياء مدينة جدة، لتُغرق شوارعها الرئيسية وعدداً من أنفاقها، ما تسبب بتعطيل الدراسة وتوقف حركة الملاحة البحرية بميناء جدة الإسلامي لعدة ساعات.
ولم يكن حادث الغرق هذا الأول من نوعه؛ فلطالما عانت مدينة جدة، على مدار سنوات طويلة، من غرق شوارعها وأحيائها بالسيول جراء أزمة تصريف مياه الأمطار.
ويأتي ذلك على الرغم من أن السعودية تحتل مراكز متقدمة في قائمة الدول الأكثر استثماراً بمشاريع البنى التحتية؛ فهي تنفق المليارات سنوياً لبناء شبكات تصريف مياه الأمطار، والصرف الصحي، والطرقات، والأنفاق، وغيرها من المنشآت.
وبحسب بيانات البنك الدولي، فإن إجمالي نفقات ميزانيات السعودية في آخر 10 سنوات يبلغ نحو 1.57 تريليون دولار، تركّز الجزء الأكبر منها على مشاريع البنية التحتية.
وكان الكاتب السعودي خلف الحربي، قد علق على غرق جدة بمياه الأمطار، في مقال نشرته صحيفة “عين اليوم” السعودية، بالقول إنه يخشى أن تتحول مأساة جدة جراء السيول لمهرجان سنوي للعبث بحياة الناس.
وأضاف الحربي: “يدخل الشتاء فتغرق جدة، تمتلئ الأنفاق الجديدة بالماء وتطفح الشوارع بالسيارات، وتخرّ سقوف المستشفيات والجامعات، وتضحك المشاريع القديمة على المشاريع الجديدة وبالعكس، بينما هناك في الزاوية التي لم يصلها المطر ثمة أموال نُهبت، وثقة شعبية اهتزّت، حتى لم تعد قادرة على الوقوف على قدميها، وأنظمة وإجراءات تكدّست فوق بعضها حتى أصبحت بلا قيمة”.
وأضاف: “يمكننا أن نقول بأن غرق جدة الدائم تحوّل إلى أيقونة للفساد ورمز للصوصية الفاضح”.
وفي الإطار ذاته فإن المملكة تنفق مليارات من الدولارات من أجل تطوير مطاراتها وقطاع النقل الجوي؛ عبر عشرات المشاريع الاستثمارية.
ومن أهم مشاريع التطوير كان ما أطلقته السعودية في العام 2011 لتنفيذ خطط تطوير مطاراتها وبنية النقل الجوي وإنشاء مطار جديد، بتكلفة بلغت 440 مليار ريال (نحو 117.1 مليار دولار).
وتبع هذه الخطوة إطلاق الرياض، في 2012، أضخم خطة لتطوير صناعة النقل الجوي بالمملكة، بتكلفة تبلغ 300 مليار ريال (80 مليار دولار).
وفي إطار إنفاقها على تطوير قطاع الطيران كشفت الهيئة العامة للطيران المدني، في 2018، عن 12 مشروعاً جديداً لتطوير مطارات السعودية، بتكلفة تقديرية بلغت أكثر من 50 مليار ريال (13.33 مليار دولار).
لكن هذه الأموال الضخمة أهدرت دون جدوى؛ فالمطارات السعودية لم تحظَ بأي تصنيف مميز من حيث الجودة، بل إن بعض مطاراتها صُنفت ضمن الأسوأ عالمياً خلال السنوات الخمس الماضية.
ويصنف موقع “دليل النوم في المطارات” الشهير مطار الملك عبد العزيز الدولي في مدينة جدة ضمن قائمة المطارات “الأسوأ عالمياً”.
ووفق تصنيف شركة “سكاي تراكس” العالمية المتخصصة بتصنيف المطارات، فإن مطار الرياض الدولي، الذي من المفترض أنه مجهز بأحدث التقنيات، لا يدخل في تصنيف أفضل 20 مطاراً حول العالم.
وبحسب تقييم مجلس المطارات الدولي (ACI) للعام 2018، فإن مطار الرياض حصل على الترتيب الـ93 في تصنيف أفضل المطارات الدولية.
ولم يحدث أن حصل أي من المطارات السعودية على درجة متقدمة في تصنيفات أفضل المطارات الدولية بالعالم.
ولا يرتبط الفساد في المملكة بالهيئات الحكومية فقط، فالعائلة الحاكمة أهدرت ملايين الدولارات رغم ما يواجهه اقتصاد المملكة من عقبات.
وذكرت تقارير منفصلة لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، العام الماضي، أن ولي العهد اشترى لوحة “المسيح المخلص” للرسام العالمي ليوناردو دافنشي، من مزاد في نيويورك، بقيمة 450 مليون دولار.
كما اقتنى بن سلمان، وفق الصحيفة ذاتها، يختاً بقيمة 550 مليون دولار، إضافة لشرائه قصر لويس الرابع عشر في فرنسا، بسعر وصل إلى 300 مليون دولار.
ويقول المحلل الاقتصادي محمد الشهري، “لا يمكن أن نتحدث عن الفساد في السعودية دون الإشارة للأمراء والأسرة الحاكمة التي تعتبر أكثر من يهدر الأموال في المملكة”.
ويضيف الشهري: “مرتبة المملكة في مؤشر مدركات الفساد للعام 2018، تراجعت درجة واحدة من الترتيب الـ57 بالعام 2017 إلى الترتيب 58 السنة الماضية، من أصل 180 دولة، وهذا التراجع يأتي رغم حملات مكافحة الفساد التي أطلقتها المملكة، وإن دل ذلك فإنه يدل على حجم الفساد المستفحل بمؤسسات الدولة”.
ويرى أن الرياض من خلال إطلاق حملات مكافحة الفساد المتتالية تريد تلميع صورتها أمام العالم بمؤسساته السياسية والاقتصادية، لكن يبدو أنها فشلت في ذلك، فحريق محطة قطار الحرمين في جدة، ومؤشرات اقتصاد المملكة المتهاوية، تظهر بشكل واضح حجم الفساد الذي يعصف في أركان الدولة.
ويقول الشهري: “الكثير من التقارير تحدث سابقاً عن أن جزءاً كبيراً من عائدات النفط يذهب لأفراد الأسرة الحاكمة، في حين يعاني بقية المواطنين من ارتفاع أسعار السلع والوقود، وفرض ضرائب جديدة”.
وكانت صحيفة “الفايننشال تايمز” البريطانية ذكرت، في تقرير سابق لها، أن أكثر من 25 ألف أمير سعودي يقتطعون جزءاً كبيراً من ثروات البلاد النفطية، سواء من كان في منصب بالحكومة أو بعيداً عنها.
وذكرت الصحيفة ذاتها أن كل أمير يتقاضى راتباً شهرياً يُقدّر بنحو 26 ألف دولار، إضافة إلى منحة سنوية تقدر بـ106 آلاف دولار، هذا إلى جانب سهولة تملّك الأراضي في أنحاء المملكة، وإقامة المشاريع والأعمال الضخمة.