ستتميّز نسخ كتاب “الملك الابن: الإصلاح والقمع في السعودية” للباحثة مضاوي الرشيد، عن نظرائها من أغلب كتب الأكاديمية الغربية عن المملكة، والتي أثقلت رفوف المكتبات.
فبعيداً من دوافع التسلية الأكاديمية ومحاولات فك الألغاز الاستشراقية المتخيّلة، يشكّل الكتاب سرداً مفتاحياً لمجمل الديناميكيات الاجتماعية والسياسية للمملكة من الداخل.
«المملكة من الداخل» هو عنوان مؤلف لروبرت ليسي، والذي لعله يشكّل النظير الغربي الضحل لكتاب «الملك الابن».
ومن هنا تبرز أهمية المبادرة إلى تأميم الإنتاج المعرفي حول شعوبنا، وهو بالتحديد ما قامت به المؤلفة.
ومن جهة أخرى، يسهم الكتاب في توثيق حكاية صعود وسُعار وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، وتفجيره للتناقضات الداخلية (والخارجية) لمملكة أجداده بشكل أوصلها إلى حالة غير مسبوقة من الاضطراب.
قصة خاشقجي
لعبت جريمة اغتيال جمال خاشقجي دوراً محورياً في توجيه دفة أسطر الكتاب، حيث تبيّن الكاتبة أهمية إحالة أسباب هجرة شخص موالٍ ويعيش بامتياز.
وخادم مطيع للعرش ومدافع متحمس عن الملكية، كما تصف خاشقجي، إلى وجوب فهم أعمق للتغييرات التي قام بها بن سلمان.
تبدأ الرشيد مؤلّفها بمقدّمة عنونتها بـ«المعرفة في زمن النفط»، لتشير إلى دور المملكة نفطياً في توفير السيولة المادية للدول الغربية بعد الحرب العالمية الثانية معوّضة خسارتها لمستعمراتها.
وتهدف الكاتبة من الإشارة إلى الرابط المالي التاريخي مع المركز الغربي، خصوصاً بريطانيا والولايات المتحدة، لتسليط الضوء على ملاحظة مهمّة متعلّقة بيومنا الحاضر.
حيث ارتبطت «الإصلاحات الترفيهية» للعهد السعودي الجديد مع رواج لتكرّر ذكر سياسة الرغيف والسيرك الرومانية، وهو أمر لا تختلف معه الباحثة.
وإن كانت تشير في نهاية الكتاب إلى سياسات الضرائب والخصخصة التي قوّضت الأبوية الريعية للدولة.
بيد أنها تشير إلى أن صعود الأمير الشاب وشرعيته ترافقت مع تمدّد «سياسة الرغيف» إلى خارج الحدود.
لتذكر مثلاً مشاهد ابن سلمان وترامب في البيت الأبيض وعمليات شراء الأسلحة أو رد رؤساء الوزراء الإنكليز المتعاقبين على أي انتقاد لعلاقتهم بالسعودية بأنهم بحاجة إلى التجارة معها.
هذه العولمة لسياسة الرغيف أسهمت في الصعود الصاروخي لمحمد بن سلمان، إلا أن عملية اغتيال خاشقجي في تركيا كانت إشارة الى أن التمدد العابر للحدود لم يكن حكراً على الأموال السعودية فقط.
بل إن القمع السعودي أصبح معولماً أيضاً كما تشير الرشيد.
ورأت أن دوافع جريمة اغتيال خاشقجي ترتبط بتاريخه ومعرفته بداخل المنظومة السعودية، والأهم أن الرجل وبعلاقاته شكل إزعاجاً لعملية تمكين كالت/طائفة الأمير.
التي وفقاً للكاتبة، كانت قد وصلت إلى مستويات عالية من الحواريين والمبرّرين في العاصمة الأميركية واشنطن حيث كان يقطن خاشقجي.
الفصل الأول
وقبل الخوض في تفاصيل هذين التمددين المالي والقمعي، خصّصت الرشيد الفصل الأوّل من كتابها لإعطاء لمحة تاريخية عن تاريخ المملكة.
وذلك لإضفاء الامتداد التاريخي للسياسات السعودية الحالية وتقلباتها أو حتى استمراريتها؛ فالقمع السعودي لم يكن يوماً حبيس الحدود.
تذكّر الكاتبة هنا، وهي التي قضت إحدى أهم مراحلها العمرية في العاصمة اللبنانية بيروت وعاصرت الاجتياح الإسرائيلي
بعملية اختطاف المناضل العروبي ناصر السعيد، ولتذكر في ما بعد الظروف المحيطة بعملية اغتيال الشاعر طلال الرشيد في الجزائر.
ومن جهة أخرى، أسهمت مقدّمتها في تبيان الجذر الوهابي التاريخي للدولة، ولتبيّن مفارقة أن «إصلاحات» محمد بن سلمان ما هي إلا انقلاب على ما أسّس له جدّه الملك عبد العزيز.
حواريّون وتبريريّون
تبيّن الرشيد أن لكل من أمراء آل سعود الرئيسيّين شبكة علاقات مبنية على «الشرهات»، أي الامتيازات المادية، فيما تعبّر عنه بالكالت/الطائفة (Cult).
إلا أنها هنا لم تكن في صدد معاينة شبكات المصالح الداخلية المرتبطة بالأمير الصاعد، بل إن مقاربتها اتجهت نحو ظاهرة جديدة في ما سمّته عولمة الطائفة.
فسياسة توزيع الريوع النفطية بشكل عابر للحدود في سياق عملية بروباغاندا رسمية موجهة لـ«الإصلاحات» التي استند إليها محمد بن سلمان كوّنت شبكة مصالح مادية
(من مبالغ مادية مباشرة وتأشيرات دخول ولقاءات خاصة مع الأمير) من المراسلين والشخصيات الغربية من حواريّين للأمير ومبرّرين له وبشكل عابر للعواصم
وبالتحديد بين أعوام 2015 و2018 وأثناء ما سمّته «نشوة» الطبقة الرأسمالية الغربية بالفرص الاستثمارية، واستقبالهم لابن سلمان كمالك شركة لا دولة.
كسل الشعب
وسّعت الدكتورة رصدها لطبيعة علاقة من سمّتهم بـ«حواريي الأمير»، لترصد طبيعة تبريراتهم الاستشراقية عن «كسل الشعب».
وأنه بحاجة إلى «مستبد إصلاحي» أو طبيعة اختزالهم مفهومهم لـ«الحداثة» وتعامل الغربيين مع الشعب في السعودية كحيوانات استهلاكية ترنو إلى حفلات غنائية وصالات السينما واستثمار أجنبي.
فكما تقول الرشيد، إنه بالنسبة إلى المراسلين الغربيين، فإن الحداثة في السعودية تعني تحويلها إلى دولة ليبرالية استبدادية مع زعيم أوحد على رأسها.
مستلهمين نماذج استبدادين ليبراليين كأتاتورك تركيا وشاه إيران، وعليه يتم اختزال مفهوم الحداثة عبر استثناء أي بعد يتصل بالحرّيات السياسية.
ثم لتذكّر القراء بمواقف وتصريحات فريدمان «ولد (محمد بن سلمان) ليكون قائداً»، أو «إن الربيع العربي قد وصل إلى السعودية»
(في رأيي التذكير بهذا التصريح في غاية الأهمّية والدقة، فما هو ربيع الشعوب بالنسبة إلى الطبقات الحاكمة الغربية ليس سوى تحرير للاقتصاد وخصخصة لموارد الأمة)، ولتذكرنا أيضاً بسعادة ومديح أغناطيوس بمشروع خصخصة «أرامكو».
إضافة إلى ذلك، تشير المؤلفة إلى عملية تأنيث لهذه الكالت/الطائفة لتلاحظ عملية زرع واستقطاب العديد من النساء البيض الغربيات ليعملن كواجهة دعائية لـ«حداثة» و«تقدّميّة» الرؤية الأميرية.
يوثّق الكتاب أيضاً الانقلاب الذي حصل للمراسلين الغربيين بعد عملية اغتيال خاشقجي والتحوّل الآلي من مبرّرين إلى نقّاد.
فبعد سنين من غض الطرف عن عمليات اعتقال العديد من الناشطين والناشطات وجرائم حرب اليمن (التهميش الإعلامي لمأساة اليمن دليل آخر على تواطؤ الدول الغربية مع الحرب).
وتصوير الأمير بالمتنوّر، بل حتى تحويل عمليات الإسراف والبذخ الاستهلاكي للأمير، كشراء يخت وأحد القصور في فرنسا، إلى وقائع تدعو للاحتفال… حصل تحوّل متدرج للتغطية الغربية للأمير.
ديناميات الداخل السعودي
تبرز أهمية الكتاب لأي راغب في معرفة السعودية عن كثب في فصوله المتعلقة بتوثيق وتحليل مسار المطالبات السياسية للسعوديين، وصولاً إلى موجة المهاجرين إلى الخارج اليوم.
ومن المباح اعتبار النص مفتاحياً، وبالتحديد من ناحية تفصيل التركيبة المجتمعية السعودية بعيداً من النظرة الصماء والاختزال بسردية «المجتمع المحافظ».
ليبيّن التنوّع الداخلي السعودي على جميع الأصعدة، سواء السياسية أم مختلف البنى المجتمعية من قبائل وحضر وقبيليين وخضيريين «ذوي النسل غير القبلي» إضافة إلى الاختلاف الجندري والطائفي والعمالة المهاجرة.
المضمون الآخر هو في المقاربة التاريخية للكاتبة لـ«الهوية السعودية» وتحوّلاتها، مع تبيانها للمركزية النجدية لشبكة علاقات الدولة وتجسيد هويتها الوطنية.
الهوية السعودية
فقد قسّم الكتاب مراحل الهوية الوطنية السعودية إلى ثلاث مراحل، والتي كما تنبّه الكاتبة قد تتقاطع زمنياً خلال مختلف الحقب:
أوّلاً الوطنية الدينية، التي قامت مع قيام الدولة، ثم الأممية الإسلامية العابرة للحدود خلال استنفارها ضمن الحرب الباردة، ولنصل اليوم إلى القوميّة السعودية.
وتنبّه المؤلفة إلى أنه وبينما كان قيام الدول الوطنية العربية كنقيض للاستعمار، فقد كان قيام الدولة السعودية على أساس ديني لم يتكرّر سوى في باكستان ودولة العدو الإسرائيلي.
إلا أن النقطة الحذقة التي تنبّه إليها المؤلفة أنه وإن كانت الصورة النمطية للفرد السعودي سابقاً تفترض التديّن والهوية الإسلامية الفاقعة، فالقومية السعودية ذات مكنون طبقي نيوليبرالي.
فعلى الشاب السعودي والسعودية اليوم أن يكونا مُلمّين بأدبيات ريادة الأعمال والاقتصاد والخدمات السلعية.
إلى أن تستطرد بأن هذا المكنون «القومي» لم يحد من استخدام الخطاب الطائفي في التحشيد الحربي في الحرب على اليمن.
ويختتم الكتاب، كما بدايته، بالحديث عن النفط؛ فجميع الديناميكيات السياسية والاجتماعية السعودية تنتهي ضمن الأساس الذي تقوم عليه الدولة وهي الريوع النفطية.
فمع الاعتراف بالشعبية التي حصلت عليها تغييرات محمد بن سلمان، والتي ستؤخر التصادم مع السلطة على خلفية القمع، إلا أن إجراءات التقشف وفرض الضرائب تنخر في شرعية الدولة.
شرعية تلاحظ الكاتبة محاولة الأمير نقلها من شكلها التاريخي كأسرة ملكية مرتبطة بشرعية دينية إلى أسرة ملكية مرتبطة بريادة الأعمال والاستثمارات المالية.
وتتنبأ باضمحلال الحماسة الشبابية تجاه المشاريع الأسطورية والدعاية العالمية للهوية السعودية والوجه الجديد لدولتهم بشكل سينتج هبّة معارضة وامتعاضاً.
ورأي الكاتب موسى السادة الذي – لخص الكتاب في مقاله هذا –أنه مع استشراف المستقبل، نظراً إلى تأثير وباء «كورونا» وأزمة النفط التي تلوح في الأفق
فإن الأمير، وبسبب تداعيات جريمة خاشقجي، لن يتمكّن من تحقيق ما يتطلّع إليه من مشاريع، وهو ما يشي بأن هنالك جمراً يستعر تحت الرماد.