كرست حملة الاعتقالات التعسفية في المملكة خلال اليومين الماضيين نهج الحكم بالقمع والبطش الذي يفرضه ولي العهد محمد بن سلمان.
وطالت حملات الاعتقال الأخيرة صحافيين وأكاديميين ونشطاء بينهم نساء على خلفية تعبيرهم عن آرائهم وانتقادهم انتهاكات النظام، فيما رافق الاعتقالات مداهمة منازل ومصادرة أجهزة الاتصال الشخصية.
ويضاف هؤلاء إلى المئات من معتقلي الرأي في سجون آل سعود، في وقت تؤكد فيه منظمات حقوقية أن المملكة واحدة من أكثر الدول انتهاكا للحريات في المنطقة.
وتشهد المملكة تصعيدا غير مسبوق بالاعتقالات خارج القانون والإخفاء قسري والتعذيب منذ تعيين محمد بن سلمان وليا للعهد عام 2017.
وقد حاول بن سلمان تقديم نفسه كإصلاحي وروج لحريات ظلت مقيدة لعقود لكن سياساته القائمة على القمع والتعسف أزالت القناع عن وجهه حتى أصبح ولي العهد من أكثر حكام العالم المنبوذين وأصحاب السمعة الملطخة.
ورغم محاولات تلميع وتبييض صورته إقليمياً ودولياً فإن بن سلمان كشف حقيقية سياساته القائمة على تكميم الأفواه وملاحقة المعارضين والنشطاء واعتقال كل من وجد فيه بذور الاعتراض على النهج الحالي الذي تسلكه المملكة.
محطات كثيرة مرت بها المملكة منذ صعود “بن سلمان” إلى منصب ولاية العهد، لكي يكون الرجل الثاني في المملكة وحاكمها الفعلي؛ في ظل تقدم عمر والده الملك سلمان، لكن أغلبها رسم صورة سوداوية وعزز من الأقاويل التي تتهم السلطات الحالية بتحويل البلاد إلى “دولة بوليسية قمعية”.
“الذباب الإلكتروني” الذي روّج على نطاق واسع مصطلحات على غرار “السعودية الجديدة” و”السعودية العظمى” في عهد بن سلمان، فشل فشلاً ذريعاً في التغطية على ممارسات المملكة؛ بل وجد نفسه محصوراً في زاوية الدفاع غير قادر على مواجهة جملة الاتهامات التي تلاحق النظام السعودي، وتكشف بوضوح “وجهه القمعي والاستبدادي”، وفق ناشطين.
وشنت السلطات خلال الساعات الـ48 الماضية حملة اعتقالات تعسفية جديدة استهدفت عدداً من الأكاديميين والمغردين، ومن بين المعتقلين نساء، حيث وصل العدد إلى نحو 10 أشخاص.
وشملت الاعتقالات الأكاديمي والمدون فؤاد الفرحان، المؤسس والمدير التنفيذي لمنصة “رواق”؛ بسبب نشاطه الثقافي ومواقفه الفكرية.
كما قال مصدر بمنظمة “القسط” الحقوقية السعودية، التي تتخذ من لندن مقراً لها، إن رجال شرطة يرتدون ملابس مدنية اعتقلوا هؤلاء المثقفين من بيوتهم في العاصمة الرياض ومدينة جدة الساحلية المطلة على البحر الأحمر، الأسبوع الماضي، لكن لم يتضح سبب الاعتقالات.
ويقول عبد الله، نجل الشيخ سلمان العودة المعتقل في السعودية، إن اعتقالات نوفمبر تؤكد أن ما سماها عمليات القمع والاعتقال “ليس لها منطق ولا نمط”، مشيراً إلى أن المستهدف قد يكون من رواد الأعمال أو المثقفين المستقلين أو الأكاديميين أو حتى من مؤيدي رؤية “2030” أو جزء من مشروعها.
واتهم “العودة” أن كل حملة اعتقالات جديدة تؤكد أن مصدر البلاء والمشكلة هو “من يدير تلك الملفات منذ سبتمبر 2017″، واصفاً من يظن أن سلوك القمع مرتبط بمرحلة أو مرتبط بشخصيات ثانوية أو بملابسات معينة بأنه “واهم”.
واعتبر نجل العودة “اعتقالات نوفمبر” الموجة السادسة من حملات الاعتقالات التي طالت نخبة المجتمع ومثقفيه، مشيراً إلى أن البداية كانت باعتقالات سبتمبر 2017، وشملت والده، واستهدفت أيضاً علماء ومفكرين ودعاة بارزين وأكاديميين وناشطين وناشطات حقوقيات، وكانت الكبرى في ذلك الوقت.
وبعد شهر واحد عرف السلك القضائي ملاحقة من النظام الحاكم، وشملت الاعتقالات ستة قضاة من المحكمة الجزائية المتخصصة، وقضاة آخرين وموظفين في وزارة العدل.
وفي نوفمبر من العام ذاته، عرفت المملكة حملة اعتقالات شملت أمراء من الأسرة الحاكمة ووزراء حاليين وسابقين ورجال أعمال نافذين، فيما عرف باعتقالات فندق “الريتز كارلتون”، وزعم النظام أنها كانت تستهدف القضاء على الفاسدين واسترداد أموال منهوبة وإعادتها إلى خزينة الدولة.
أما الموجة الرابعة من الاعتقالات فقد لاحقت “الجنس اللطيف”، في مايو 2018، حيث كانت الناشطة والمدافعة عن حقوق النساء لجين الهذلول على رأس قائمة الناشطات اللواتي زج بهن في السجون.
وفي المحطة قبل الأخيرة، شنت سلطات السعودية اعتقالات 2019، التي شملت 8 أشخاص، وكانت الأولى منذ قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده على يد فريق اغتيال تابع للمخابرات السعودية، في أكتوبر 2018.
بدوره وصف الناشط الحقوقي والمعارض السعودي عمر بن عبد العزيز، الموجود في كندا، اعتقالات نوفمبر بأنها تمت “بأثر رجعي”، مؤكداً أن الموجة الأخيرة استهدفت شباباً تركوا الانشغال بالسياسة منذ سنين، وبعضهم انخرط في الترويج لـ”رؤية 2030”.
وأطلق عبدالعزيز تحذيراً لكل من له سوابق في العمل الحقوقي أو السياسي، أو كان داعماً ومتحمساً لثورات الربيع العربي، أو من لديه علاقاته مع أحد المعتقلين الحاليين، مطالباً إياهم بالخروج من البلاد في حال كانوا قادرين على ذلك، وعدم الارتهان لفكرة أنهم في منأى عن الاعتقال.
وضرب “عبد العزيز” مثالاً بالقبض على فؤاد الفرحان في اعتقالات نوفمبر، رغم أن منصته “رواق” التعليمية، التي تعد إحدى أقوى المنصات بالشرق الأوسط، كانت داعمة لرؤية بن سلمان، إلا أن تركه الانشغال بالسياسة منذ سنوات لم يشفع له وكان مصيره السجن.
بدورها قالت صحيفة “بلومبيرغ” الأمريكية أن أغلبية المشمولين بموجة الاعتقالات الجديدة في الملكة كانوا ناشطين على مواقع التدوين والتواصل الاجتماعي خلال فترة الربيع العربي في 2011.
وأوضحت أن أغلب المعتقلين في الموجة الأخيرة في السعودية توقفوا عن الكتابة عن الشأن المحلي منذ سنوات، أو أنشؤوا شركاتهم الخاصة، أو انضموا للحكومة، لافتة إلى أن الحملة التي تشنها المملكة على المنتقدين المحليين “لا تتراجع مع تقدم المسؤولين إلى الأمام بخطة بن سلمان لإصلاح الاقتصاد الذي يعتمد على النفط وتخفيف القيود الاجتماعية”.
وتتحدث منظمات حقوقية دولية وناشطون عن انتهاكات كبيرة يتعرض لها المئات من المعتقلين لدى سلطات المملكة، التي زجت بمئات العلماء والنشطاء والحقوقيين في غياهب السجون؛ بسبب تعبيرهم عن آرائهم ومعارضة ما تشهده السعودية من تغييرات.
وتمت الاعتقالات، وفقاً لمنظمات حقوقية، من دون أمر قضائي أو مذكرة إلقاء القبض، وهي طريقة تشبه عمليات الاختطاف، ويمنع المعتقل من التواصل مع ذويه أو توكيل محامٍ لمتابعة قضيته.
وينتهك الإهمال الصحي لمعتقلي الرأي في المملكة نظام الإجراءات الجزائية، وجميع المواثيق الحقوقية الدولية التي تكفل حقوق المعتقل وتضمن له رعاية صحية تامة.
ويرى مراقبون أن تحرّكات بن سلمان المستمرة هدفت إلى القضاء على النشاط الدعوي والحقوقي في البلاد بهدف تعزيز قبضته الأمنية، لتيسير تسويق رؤيته الجديدة القائمة على الانفتاح المفرط والمخالفة لعادات المجتمع المحافظ وثقافته، فيما بات يُعرف في الأوساط المحلية والإعلامية بأنه “ترفيه بالإكراه”.
وتعزّز المحاكمات السريّة التي أجرتها السلطات السعودية لعدد من المعتقلين، على غرار الشيخ العودة الذي طالبت النيابة العامة بقتله “تعزيراً”، الشكوك حول نيّة بن سلمان إعدام عدد من المعتقلين، تمهيداً لتنصيب نفسه حاكماً جديداً للبلاد.