
في عالم يعج بالأزمات ويئن تحت وطأة الحروب والانقسامات، تتعاظم الحاجة إلى الأصوات التي تمثل الضمير الجمعي للأمة – العلماء والدعاة والمفكرين.
غير أن ما تشهده السعودية منذ سنوات من حملات اعتقال واسعة بحق العلماء والدعاة المستقلين يعكس توجهًا واضحًا نحو تكميم الأصوات الدينية والفكرية المؤثرة، وتفريغ المجال العام من كل ما يمت بصلة إلى القيم الأخلاقية التي طالما شكلت أساسًا لتماسك الأمة ومقاومتها للظلم.
في هذا السياق، يُطرح تساؤل جوهري: لو لم يُغيب علماء الأمة في السجون، هل كانت غزة لتبقى تحت الحصار كل هذه السنوات؟ وهل كان مشروع التطبيع والانبطاح سيجد أرضًا خصبة في وعي الشعوب؟
غياب العلماء.. غياب التأثير
بدأت حملة الاعتقالات الواسعة ضد العلماء والدعاة في السعودية منذ منتصف 2017، وشملت أسماء بارزة كـالشيخ سلمان العودة، وعوض القرني، وعلي العمري، وناصر العمر، وسفر الحوالي، وغيرهم من الشخصيات المعروفة بمواقفها الجريئة تجاه قضايا الأمة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
وقد جاءت هذه الحملة في سياق تغيّر سياسي جذري في المملكة، تَمثّل في صعود ولي العهد محمد بن سلمان، الذي تبنى مشروعًا للانفتاح الاجتماعي المقترن بتضييق الخناق على أي خطاب ديني مستقل، لا يتماشى مع الرؤية السياسية الرسمية.
هؤلاء العلماء لم يُعتقلوا بتهم جنائية، بل بسبب مواقف فكرية، وتغريدات، ومحاضرات حثّت على دعم فلسطين، أو رفضت الظلم، أو انتقدت الفساد والاستبداد. ومنهم من قضى سنوات دون محاكمة، أو خضع لمحاكمات سرية، وسط تنديد منظمات حقوقية دولية كـالعفو الدولية وهيومن رايتس ووتش.
غزة مثالًا حيًا
في الوقت الذي كانت فيه غزة تُقصف وتحاصر وتُجوّع، كانت الأصوات الداعية لنصرة الشعب الفلسطيني مقموعة داخل الزنازين. فلم يعد هناك منبر قوي داخل المملكة ينقل الحقيقة أو يرفع الصوت باسم الأمة.
فالمنابر الرسمية خضعت للمراقبة والتوجيه، والخطاب الديني تم تفريغه من مضمونه المقاوم، وأُعيد تشكيله ليخدم أجندة سياسية تتبنى التطبيع مع إسرائيل والانخراط في تحالفات إقليمية ضد ما يُصنف “تيار الإسلام السياسي”.
منابر العلماء كانت لعقود هي المحرك الأساسي للتعاطف الشعبي مع القضية الفلسطينية، وكانت الفتاوى والخطب والدروس تُسهم في بناء وعي عام يرفض الاحتلال ويدعو إلى المقاومة ويدعم صمود الشعوب المستضعفة. تغييب هذه الأصوات ساهم في تبريد المشاعر الجمعية، وتفكيك الروح الجماعية المناصرة لفلسطين.
فلو بقي العلماء والدعاة في أماكنهم، لهم الكلمة الحرة والمنبر المفتوح، لربما تحوّلت مشاهد المجاعة في غزة إلى صرخة عامة تُحرك الشعوب وتضغط على الأنظمة، ولما تجرأت دول خليجية على فتح سفارات في تل أبيب أو استقبال مجرمي حرب إسرائيليين على أراضيها.
التأثير على هوية الأمة ووعيها
لا تقتصر نتائج تغييب العلماء على البعد السياسي فقط، بل تمتد إلى التأثير على الهوية الدينية للأمة ومرجعياتها الفكرية.
فمع غياب الخطاب الوسطي المؤصّل، الذي يُقدمه علماء كبار خاضوا تجربة الدعوة والفكر، تصاعدت أصوات سطحية أو متطرفة أو سلطوية، مما أدى إلى تشويه صورة الدين في أذهان الشباب، وخلط الأوراق بين “الدين الحق” وبين الخطاب الديني الرسمي المفروض.
وأمام هذا الفراغ، وجد خطاب التطبيع والتدجين والترف الديني طريقه نحو الواجهة، وأُنتجت سرديات جديدة تُبرر الخضوع باسم “التعايش”، وتُشيطن المقاومة باسم “الاستقرار”، وتُهاجم الأصوات الحرة باعتبارها تهديدًا للأمن أو الوحدة.
تواطؤ رسمي وتجاهل شعبي
اللافت أن معظم المنابر الإعلامية والدينية الرسمية في السعودية والعالم العربي تجاهلت بشكل تام معاناة هؤلاء العلماء، بل ساهم بعضها في تشويه صورتهم، أو تبرير اعتقالهم، في إطار حملة منظمة لتشويه سمعتهم وتقويض مصداقيتهم.
أما على المستوى الشعبي، فقد قوبلت الاعتقالات في بدايتها بموجات غضب واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن مع مرور الوقت واشتداد القبضة الأمنية، خفتت الأصوات، وصار الناس يخشون التفاعل أو التعبير خشية الملاحقة.
هل الأمة بدون علمائها حية؟
لقد كانت العلماء والدعاة دومًا صمّام أمانٍ للأمة، يُعيدونها إلى بوصلتها الأخلاقية، ويوقظون ضميرها الجمعي كلما اقتربت من الهاوية. تغييبهم هو تغييب للبوصلة، وتحييدهم هو تفكيك لمنظومة القيم، واعتقالهم هو اغتيالٌ للذاكرة الحية.
وإذا كانت غزة اليوم تُحاصر وتُجَوّع أمام أعين ملايين المسلمين، فإن صمت العلماء أو تغييبهم يُعد عاملاً رئيسيًا في هذا الواقع، لأنهم من كانوا ليصرخوا في الأمة، ويدفعوها نحو اليقظة، ويحرضوا على الموقف الحر.
وعليه فإن ما يحدث في السجون السعودية من تكميم للأفواه واعتقال للعقل والضمير، لا يخص المملكة وحدها، بل يُعد جريمة بحق الوعي الجمعي للأمة الإسلامية. فحين يُغيب العلماء، تُغيب الحقيقة، ويُفتح الباب أمام مشاريع التزييف والتطبيع والانهيار الأخلاقي.