لا تزال تغيب العدالة في جريمة قتل الصحفي البارز جمال خاشقجي بعد عام على تدبير محمد بن سلمان اغتياله بشكل مروع لدى دخوله إلى قنصلية المملكة في اسطنبول التركية.
ارتكب بن سلمان واحدة من أشهر عمليات الاغتيال الحديثة على مستوى العالم بقتل خاشقجي الذي ظل شكله معارضا مشهورا يسمع العالم بمواقفه وتقييمه لسياسات ولي العهد المتهورة.
صرح خاشقجي قبل فترة من اغتياله بأن سياسة بن سلمان تقوم أن مصلحته في مواجهة الإسلاميين “الذي يفترض أنهم حلفاء نظام آل سعود التاريخيين”.
وقال عن ذلك “أنا لما أسمع مثقف سعودي يطلع على التلفزيون ويهاجم الإسلام السياسي أقول يا اخي السعودية هي أبو وأم الإسلام السياسي، السعودية هي قامت على فكرة الإسلام السياسي.. التحالف مابين دعوة الشيخ ودعوة الإمام محمد بن سعود هي إسلام سياسي مئة في المئة”.
عقب ذلك كان لابد لخاشقجي أن يختفي من على وجه الأرض تماماً، صوته بارز، قلمه عالمي ومعارضته متوازنة ووجوه سياسية مركبة، وعلاقاته واسعة ومتشعبه وعميقة.
كان خاشقجي مناصرا للديمقراطية، يحب الربيع العربي ويتسامع مع مخالفيه ويؤمن بحرية الرأي والتعبير وينصر المعتقلين، ويؤيد العائلة المالكة فلا يستطيعون تشويهه.
شكل خاشقجي عاملا مزعجاً بما يكفي لولي العهد ومثل في لحظاته الأخيرة كل ما يمكن لنظام آل سعود أن يكرهه ويخشاه.
حتى أتى مشروع خاشقجي الجديد “منظمة DAWN ” الأخطر على الإطلاق، فكان بمثابة حكم إعدام واجب النفاذ وعندما عرف بن سلمان بالمشروع أعطى الضوء الأخضر لأختطاف خاشقجي، في اختطاف ادى لمجزرة في غرف السياسة السعودية المغلقة بإسطنبول وكتب نهاية صحفي المملكة الأبرز في العالم للأبد.
وحتى عام واحد مضى لم يكن خاشقجي معارض شرساً أبداً بل كانت وجوهه متوازنة.
سبق أن صرح خاشقجي عام 2017 “أعتقد بشدة أن النضال من أجل الديمقراطية في الشرق الأوسط، بالأخص في الأنظمة العربية الجمهورية لا الملكية، هو أساس كل المشكلات الحالية، أظن أن محمد بن سلمان يفعل الصواب بتقديمة لرؤية 2030، الآن عليه أن ينفذها بشكل صحيح”.
وقال في مناسبة أخرى “لا أصنف نفسي حتى الآن على أنني معارض ودائماً ما أقول أنني مجرد كاتب”.
خلال وجهه القومي كمحب للمملكة صادق بعض إل سعود منذ الثمانينيات وأقترب على مدار 20 عام من الأمير تركي الفيصل (الرئيس التاريخي للأستخبارات السعودية) وعاداه بعضهم أيضاً، وعلى رأسهم الأمير نايف بن عبدالعزيز (وزير الداخلية الأشهر)، الذي أطاح به من رئاسة تحرير “الوطن” بعد 52 يماً فقط من توليها.
أما وجهه الإصلاحي فقربه من الملك عبدالله مؤيداً حملات الملك ومبادرة إصلاحه ومدافعاً عن قصف المملكة العسكرية للحوثيين شمال اليمن، وكاتباً لعشرات المقالات المؤيدة للنظام الملكي وقتها وبوجهه الثوري..
أيد الراحل ربيع العرب ولم يعادِ الأخوان المسلمين كحكامه، وآمن بحرية الجميع وعندما تولى “سلمان” الملك كان خاشقجي متفائل بعهده الجديد.
وقال عن ذلك في حينه “ما عندي توجس، الملك سلمان يعرف الصحافة جيداً كل رئيس تحرير يذكر لك عشرات القصص عن الأمير كلمني وقال لي، أيام ماكان أمير للرياض أو ولي العهد.
مؤيداً كل شيء فعله في عامه الأول من عاصفة الحزم، لقطع العلاقات الكامل مع إيران وحتى رؤية 2030، لم يكن هناك ما يثير قلقه ومانت الرياض في عينه تسير واثقة الخطى حتى بدأ ابن سلمان يبسط قبضته الأمنية بلا رحمه.
في البدء كانت معارضة خاشقجي متوازنة وحذرة، معارضة صحبها دوماً تأييده لأبن سلمان ونصح له.. وكما أيده في رؤيته الاقتصادية، أيده في حملته على الفساد، وبعد ليلة السكاكين الطويلة كان خاشقجي يرى أن تصرف بنِ سلمان صحيح تماماً وأنه لا يسعى للسلطة لأنه يمتلكها بالفعل.
وبينما نادى بإنهاء الحرب في اليمن كان يدافع دوماً عن المملكة، حيث صرح “مواصلة تقريع السعودية على ما تفعله في اليمن لن يجلب السلام لها ولا المطالبة بمعاقبة المملكة أو وقف تسليحها سيجلبان السلام أيضاً وستستمر الحرب، الطريقة المثلى لحلب السلام لليمن هي دور أمريكي أكبر هناك”.
طلب تدخلاً أكبر من الأمريكيين لفرض عملية السلام، معارضاً مطالبات نخبتهم بمعاقبة الرياض أو منع تسليحها، ومجادلاً إياهم بذلك في قلب واشنطن؛ إلا أن حذره.. وتوازنه.. ورضاه عن “إصلاحات” بن سلمان كما سماها دوماً كل ذلك لم يشفع له!.
لم يعجب بن سلمان حديث خاشقجي بأنه “ما من دولة خليجية الا وتعاني من هدر هائل بالمال العام وما من أمير أو شيخ أو حاكم في أي دولة خليجية إلا ويفعل هذا الشيء ويجب أن نطالب نحن جميعاً كخليجيين حكامنا بالرفق بنا وبالرفق بمصير الأجيال القادمة”.
منذ يونيو/حزيران الماضي ولأكثر من 4 أشهر.. عرض مسؤولون سعوديون رفيعوا المستوى على الصحفي الشهير أن يعود لبلاده مع وعده بالحماية الكاملة، ومنصباً رفيع المستوى في الحكومة، إلا أنه لم يأمن جانبهم ورفض العروض كلها.. حيث صرح ” لا أستطيع العودة حتى أطمئن الى أنني لن أعتقل لرأيي، لأن غيري أعتقل لرأيهم”
وبدأ جولاته العالمية لتأسيس مشروعه الجديد الاسم المختصر للديمقراطية للعالم العربي الآن، منظمة مناصرة الديمقراطية غير حكومية ومستقلة هدفها الأول تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي، عنوان وهدف حملا كل الأحرف التي يخشاها نظام آل سعود.
لكن تفاصيل المنظمة الأخرى كانت أكثر إخافة لنظام آل سعود، إذ هدفت بداية لإحياء سمعة الربيع العربي في الغرب ولتقديم رواية أخرى عنه، رواية جيدة للمعارضين له في أروقة واشنطن وأوروبا.
خططت المنظمة لاستقطاب أكبر عدد من صناع القرار ورجال الأعمال والمؤثرين النافذين في العالم، ووضعت نصب أعينها جمع منفيي الربيع العربي من شتى أقطاب الأرض، ورسمت سياستها لمراقبة دول الشرق الأوسط الغارقة في الديكتاتورية والقمع والدفع لانتخابات ديمقراطية نزيهة في كل مكان أما مقعد رئاستها فكان من نصيب رجل واحد؛ خاشقجي نفسه..
من بدأ يرتحل لجمع المال لتمويلها من أثرياء الخليج بالخارج من يمكن أن يتحمسوا لمبادئها وأهدافها النبيلة، لكن شخصًا على جانب المحيط الآخر لم يكن ليسمح بذلك أبداً وهو بن سلمان.
قبل نحو عام من قتله صرح خاشقجي فاضحا القمع في المملكة “اليوم تُحكم السعودية من قبل رجل واحد حتى أنه لا يديرها داخليًا مع العائلة فلا يوجد أي أحد فيها مقرب منه من العائلة إنه القائد الأوحد للملكة ويمتلك مستقبلها، ويرجع إليه الأمر إن قادنا نحن السعوديين إلى الإصلاح والازدهار أو إلى الخروب، لا نعلم”.
سرعان ما أصدر بن سلمان أوامره لمعاونيه ببدء عملية إغراء “خاشقجي” ومحاولة إعادته للمملكة ومن ثم اعتقاله وإخفائه ربما للأبد، لاكن خاشقجي كان أكثر حذراً من ذلك.. حتى أتته النصيحة من واشنطن بأن يذهب لإسطنبول لإنهاء معاملاته الرسمية، وهناك كانت كتيبة الاختطاف بانتظاره والتي تحولت لكتيبة إعدامه.
دخلوا الأراضي التركية بطائراتهم الخاصة وجوازات سفرهم الدبلوماسية واستغلو القوانين الدولية ووجودهم على أرض سعودية رسمية وغيبوا “خاشقجي” في ظلمات الجب، تماماً كعادة العهد الأثيرة مع معارضية، قتل خاشقجي وأنتفض العالم… وأنكر “ابن سلمان” رغم كل الدلائل الواضحة، لاكن قصة أستاذ الصحافة المخضرم لم تنته، وصوته وكلماته سيظلون في آذان الجميع.. بلا نهاية.
عقب الجريمة احتاجت سلطات آل سعود إلى ثلاثة أسابيع لكي تستقر على روايتها الرسمية النهائية التي تأرجحت بين الإنكار التام والقاطع في البداية لمعرفتها بقضية الاغتيال، وبين الاعتراف الناقص في نهاية المطاف، حيث اضطرت للإقرار بأن خاشقجي تم قتله في القنصلية، لكنها قالت إن هذه الجريمة كانت “عملا مارقا” ارتكبه أشخاص، وإن كانوا موظفين في الدولة لكن مسؤوليهم لم يكونوا على علم بذلك.
المنتقدون للرواية الرسمية يعتبرون أنها “رواية على المقاس”، فصلت لكي تبعد نار الجريمة عن جلباب محمد بن سلمان، الذي تصر الرواية الرسمية على أنه لا علاقة ولا علم له بالتخطيط لهذه الجريمة.
ويرى هؤلاء المنتقدون أيضا أن التذبذب في الرواية السعودية مرده إلى أنها كانت تقتفي أثر ما كانت تسربه تركيا من حين لآخر من معلومات عن الجريمة، ويعتبرون أن السلطات التركية نجحت في استدراج السعوديين إلى تناقضات صارخة بسبب سعيهم الحثيث وراء تكييف روايتهم لمحو “آثار” المعلومات التي تسربها أنقرة.
تذبذب رواية المملكة بشأن مقتل خاشقجي جعل المملكة في مرمى انتقادات دولية فضلا عن انتقادات من منظمات وسياسيين وحقوقيين كثر، ويبدو أنها رواية لم يصدقها إلا الرئيس الأميركي دونالد ترامب حفاظا على علاقته مع “حليف إستراتيجي”، وصونا لمصالح عديدة للولايات المتحدة.