اتخذت سلطات آل سعود آليات دفاع متعددة في محاولة للخروج من الأزمة التي خلفتها جريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي وتقطيع وإخفاء جثته.
وأجبر النظام على الإطاحة برؤوس كبيرة من الدائرة المقربة من بن سلمان في محاولة لحمايته من مسؤولية عملية الاغتيال.
وبدأت هذه الآليات الدفاعية بإنكار وجود خاشقجي داخل القنصلية وانتهت بالحديث عن “عصابة مارقة” قامت بهذه العملية من دون علم القيادة وتقديم أفرادها للمحاكمة.
ومرّ عام كامل على جريمة قتل خاشقجي داخل قنصلية المملكة في إسطنبول، من دون أن تظهر أي بوادر لتحقيق العدالة. وقد يمضي وقتٌ طويل، أو قد لا يأتي، قبل أن يقرر المجتمع الدولي محاسبةً حقيقية لقتلته، المباشرين وغير المباشرين.
وحتى لو كان هؤلاء معروفين وبالأسماء بحسب خلاصات أجهزة الاستخبارات التركية والأميركية والتي أشارت صراحة إلى مسؤولية محمد بن سلمان وعدد من المقربين منه، فإن الحماية التي سقطت على الأخير من قبل الولايات المتحدة، كشفت عورة القانون الدولي، ومحدودية القدرة على استخدامه أو تطبيقه، عندما تتداخل المصالح والقوة والنفوذ، لتغطي على حقّ إنساني بالحياة، وجريمة بشعة بحجم تلك التي ارتكبت بحق الصحافي الراحل.
والجريمة، كما بدا على مدى عام كامل تحولت إلى ورقة ابتزاز للمملكة وحاكمها الفعلي محمد بن سلمان، المتهم بإصدار الأوامر لقتل خاشقجي، من الجهة التي تحميه تحديداً.
وسبّبت حادثة اغتيال خاشقجي ضرراً بالغاً لسياسة المملكة الخارجية ولصورة بن سلمان خصوصاً بعدما انتقل من مرحلة افتعال الأزمات الدبلوماسية وتوتير الأوضاع في الخليج واعتقال الناشطين إلى مرحلة قتل معارضيه.
وعلى الرغم من الإدانات الدولية التي تعرضت لها المملكة جراء الجريمة التي أظهرت تورط كبار المسؤولين فيها في مقدمتهم بن سلمان، إلا أنّ ذلك لم يوقف تعاون المجتمع الدولي مع بن سلمان أو إمداد الرياض بالأسلحة والمعدات العسكرية، بفعل اعتماد الرياض على ثلاثية المال والنفوذ والوقت.
وبسبب انعدام الضغوط المتواصلة، نجح نظام آل سعود في تغيير روايتها للأحداث أكثر من مرة، وصولاً إلى اعتراف بن سلمان أخيراً بأنه مسؤول عن الجريمة كونها حدثت “في عهده”، وسط محاولات لإضفاء صبغة بيروقراطية على الجريمة، وكأنها حدثت بسبب أخطاء موظفين يعملون في أجهزة دولة عملاقة، على الرغم من أن الجميع يعرف بأنه لا أحد يستطيع اتخاذ قرارات كبيرة مثل هذه بدون إذن من الديوان الملكي ومن بن سلمان شخصياً.
وبدأت القصة في الثاني من شهر أكتوبر/ تشرين الأول عام 2018 حينما دخل خاشقجي قنصلية بلاده في إسطنبول لإتمام بعض أوراق المعاملات الرسمية الخاصة بالزواج بينما كانت خطيبته خديجة جنكيز تنتظره في الخارج.
وبمجرد دخوله، بحسب ما كشفت التحقيقات، فوجئ بوجود فرقة تابعة لبن سلمان كان على رأسها الضابطان الاستخباراتيان ماهر المطرب وصلاح الطبيقي ينتظرانه ليقوما بمعاونة فريق الاغتيال بقتله وتقطيع جثته وإخفائها كما تبين في ما بعد.
وفور تسرب الأنباء حول اختفاء خاشقجي بعد دخوله للقنصلية، اعتمدت سلطات آل سعود سياسة الإنكار، فأعلن القنصل محمد العتيبي أن خاشقجي خرج إما من باب القنصلية الخلفي أو الأمامي، نافياً بشدة ما تردد عن مقتل الصحافي داخل القنصلية.
وقال ولي العهد محمد بن سلمان في مقابلة له مع وكالة “بلومبيرغ” إن بلاده ليس لديها ما تخفيه بشأن قضية خاشقجي وأنه خرج من القنصلية داعياً الإعلام العالمي لزيارة القنصلية.
واستمرت سلطات آل سعود بالإنكار بتأكيد وزير الداخلية السعودي عبد العزيز بن سعود على عدم مقتل خاشقجي، بينما استمرت آلتها الإعلامية بتحميل قطر وتركيا وإيران، الذين وصفتهم بأنهم “أعداء المملكة”، مسؤولية اختفاء جمال خاشقجي بعد خروجه من القنصلية، فيما كانت قنوات “سعودي 24” المملوكة للاستخبارات السعودية تتهم خطيبته خديجة جنكيز بالتورط في عملية “اختفاء المواطن السعودي جمال خاشقجي”.
وأجبرت الأجهزة الأمنية عائلة خاشقجي على إصدار بيان على لسان معتصم خاشقجي، وهو ابن عم من الدرجة الأولى لجمال خاشقجي، يفيد بأن أسرته “بدأت بتوجيه اتهامات قانونية ضد كل من قام بترويج إشاعات تفيد بمقتله”.
وأضاف ابن عم خاشقجي أن العائلة “لا تعرف خطيبته خديجة وأنها تعتقد أنها ذات أجندة خارجية لا نعلم عنها تستهدف أمن البلاد”.
وتحت ضغط السلطات التركية التي بدأت تحقيقاتها في القضية وفضح دور فريق الاغتيال وكيفية وصوله إلى تركيا، أرسلت المملكة فرقة تحقيق خاصة “للتعاون” مع السلطات التركية في محاولة فهم ملابسات “اختفاء” جمال خاشقجي، حيث أكدت مصادر متطابقة أن الفرقة أرسلت بأمر من العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز بعد مكالمات مشتركة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الأميركي دونالد ترامب.
وفي 20 أكتوبر، أي بعد 18 يوماً من اختفاء جمال خاشقجي اعترفت سلطات آل سعود تحت تأثير الضغط الدولي والحقوقي في العالم بمقتله داخل القنصلية السعودية في إسطنبول بعد “مناقشات تطورت بشكل سلبي وأدت إلى حدوث مشاجرات واشتباك بالأيدي بين بعضهم وبين المواطن جمال خاشقجي، وتفاقم الأمر ما أدى لوفاته”.
كما أعلنت عن اعتقال 18 متهماً على رأسهم نائب رئيس الاستخبارات أحمد عسيري والضابطان ماهر مطرب وصلاح الطبيقي وبقية فريق الاغتيال.
كما جرى عزل المستشار في الديوان الملكي وذراع بن سلمان الأيمن والمخطط الرئيسي لعملية الاغتيال سعود القحطاني من منصبه.
وتضمنت قرارات الملك سلمان “تشكيل لجنة وزارية برئاسة بن سلمان، لإعادة هيكلة رئاسة الاستخبارات العامة وتحديث نظامها ولوائحها وتحديد صلاحياتها بشكل دقيق”.
اعتراف سلطات آل سعود بالجريمة ترافق مع محاولة ترامب حماية ولي العهد محمد بن سلمان من المسؤولية، فيما كانت الضغوط الدولية على القيادة السعودية تترجم بخطوات على الأرض.
وصوت الكونغرس الأميركي على مشروع قانون يوقف بيع الأسلحة الأميركية للسعودية وحلفاء آخرين لواشنطن بقيمة 8.1 مليارات دولار، وكان مقتل خاشقجي أحد أسباب وقف هذه الصفقة.
كما تقدم عضوا الكونغرس الجمهوري ليندسي غراهام والديمقراطي كريستوفر كونز بمشروع قانون جديد ينص على المطالبة باعتبار المملكة العربية السعودية مسؤولة عن اغتيال جمال خاشقجي، قبل أن تسقط مشاريع القوانين بالفيتو الرئاسي من ترامب.
من جهتها، أوقفت ألمانيا عدداً من صفقات الأسلحة مع الرياض وأوقفت كذلك عملية تدريب الشرطة الاتحادية الألمانية للشرطة الحدودية السعودية بعد اكتشاف تورط السعودية في الجريمة.
كما أن المُقرّرة الخاصة المعنية بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء أو بحالات الإعدام التعسفي في المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، أنياس كالامار، أجرت تحقيقاً توصل إلى استنتاج رئيسي مفاده أن بن سلمان متورط في اغتيال خاشقجي بشكل مباشر.
وكان المال السعودي الوفير وصفقات الأسلحة الضخمة التي تعقدها مع الدول الغربية، سبباً في جعل الكثير من هذه الدول تحاول الموازنة بين إرضاء الحركات الحقوقية داخل أراضيها وبين عدم إغضاب سلطات آل سعود.
وبدا أن الإدانات الرمزية التي يقوم بها الكونغرس والبرلمانات الغربية لم تؤد إلى خطوات حقيقية تدفع الرياض إلى كشف مصير جثة خاشقجي ومحاسبة جميع المسؤولين عن الجريمة.
كما أن المحاكمات الشكلية التي أجرتها الرياض مع متهمين فرعيين في عملية الاغتيال ومطالبة النيابة العامة بإعدام خمسة من المتورطين، أدت إلى حصول الحكومات الغربية على مادة يمكن تقديمها لشعوبها الغاضبة من عملية الاغتيال.
من جهته، قال الناشط السعودي المعارض المقيم في لندن، رئيس منظمة القسط لحقوق الإنسان يحيى عسيري، إن “النظام لم يستطع التملّص من هذه الجريمة مع وجود عدد من الحلفاء الأقوياء الذين يحاولون مساعدة النظام، وعلى رأسهم دونالد ترامب، إلا أنه باختصار فإن الوضع المزري الذي فيه النظام السعودي حالياً، لم يسبق له مثيل. فهو لا يستطيع أن يذهب إلى حلفائه كما هو الحال في الماضي، كما أنه لا يستطيع عقد صفقات الأسلحة بأريحية، بل إن الإعلام بدأ يسلط الضوء بشكل واضح على جرائم النظام السعودي وانتهاكاته الحقوقية داخل البلاد”.
وأضاف: “بالتأكيد النظام لن يعاقب معاقبة حقيقية على ما فعله بجمال خاشقجي لكنه انكشف بشكل كبير للمنظمات الحقوقية والصحافة العالمية، وباتت الحكومات العالمية تتحرج من واقع كونها متعاونة مع النظام السعودي، حتى أن ترامب نفسه يتعرض للهجوم بسبب حمايته لبن سلمان”.
وختم عسيري قائلاً: “نعم النظام تجاوز بعض أضرار الجريمة لكنه لا يزال يدفع ضريبة عملية القتل، نعم إنها ضريبة غير كافية ولكنها موجودة”.
وبالعودة إلى المسار القانوني لقضية جريمة خاشقجي، فلا يبدو اليوم سوى أنها تسير بخط واحد، وهو المسلك التركي، الذي بدا مصمماً منذ اللحظة الأولى على استكمال التحقيق، مع فشل حتى الآن لمسعى تدويله، ولا يزال الأتراك يطالبون بمحاسبة القاتلين عبر القانون.
غير ذلك، فإن التحقيق والأحكام التي أصدرتها السعودية بعد اعترافها بالجريمة وبجزء من فاعليها، بدت مسرحية هزلية، ولو أنها تقع في سياق تاريخ طويل من عمليات التصفية التي مارستها المملكة منذ نشأتها الحديثة بحق معارضيها.