أعادت الإجراءات الجديدة التي فرضها نظام آل سعود في مايو / أيار 2020 إلى الأذهان نظيراتها التي اتخذها دول مجلس التعاون الخليجي في يونيو/ حزيران 2016م.
لكن الإجراءات التي أقرتها دول المجلس صحبها تطمينات رسمية في حماية استقرار الدول على المدى الطويل بعد الأزمة التي أحدثها انهيار أسعار النفط في 2014م.
ووافق وزراء المالية في دول مجلس التعاون آنذاك على تطبيق ضريبة القيمة المضافة بنسبة 5% وطمأنوا المواطنين القلقين أن فرض الضرائب (الذي كان لا يمكن تخيله في السابق).
وكانت ضريبة القيمة المضافة أحد عناصر حزمة إصلاح مالي أكبر تضمنت تخفيضات في دعم الوقود والمياه وغيرها من الإعانات وخصخصة أصول الدولة وتخفيضات في الوظائف الحكومية والمزايا.
كان الأمل أن يؤدي سن تغييرات اقتصادية متواضعة نسبيًا (وإن كانت لا تزال غير مرحب بها حتى اليوم) إلى حفاظ مواطني الخليج على نموذج الرفاه الريعي الأكبر الذي استمر لأجيال.
وتضمنت حملة الرسائل الموجهة للشعب بشأن ضريبة القيمة المضافة وأجندة الإصلاح الأوسع ناجحة بكل المقاييس، وعلى الرغم من بعض المقاومة الشعبية في البحرين والكويت، لم تشهد المنطقة تعبئة سياسية مستدامة ضد السياسات الجديدة.
ومع ذلك، تُرك العديد من المواطنين الخليجيين والمقيمين في الخليج، ولا سيما أولئك من دول الخليج الأقل ثراءً، للتساؤل عما إذا كانت هذه الجولة الأولية من التقشف ستكون فقط الخطوة الأولى نحو منحدر زلق ينتهي بتفكيك أكثر جوهرية لنظام الرعاية الاجتماعية السخي في الخليج.
فقد يكون إعلان المملكة الأسبوع الماضي مضاعفة ضريبة القيمة المضافة 3 مرات لتصل إلى 15%، وكذلك تخفيض بدل تكلفة المعيشة للمواطنين، إشارة إلى أن الانهيار الاقتصادي بدأ بالفعل.
ويأتي القرار بعد أسبوع من تحذير وزير المالية في المملكة بعبارات قاتمة بشكل غير معتاد من تخفيضات الإنفاق الحكومي المؤلمة واللازمة لموازنة ميزانية السعودية التي أفسدتها حرب نفطية مع روسيا، وحرب فعلية لا تنتهي في اليمن، وآثار الإغلاق الاقتصادي العالمي بسبب “كوفيد-19”.
ليست الأخبار كلها سيئة بالنسبة للسعودية، ولكن يكشف استقصاء أن مواطني الخليج منفتحون بشكل غير متوقع على ضريبة القيمة المضافة، والضرائب بشكل عام، كوسيلة لموازنة ميزانية الدولة.
وعندما طُلب من المشاركين في الاستقصاء الاختيار بين السياسات المالية المتنافسة، كان المشاركون الخليجيون أكثر قابلية لاختيار ضريبة القيمة المضافة بدلا من التخفيضات على الوظائف الحكومية، أو الفوائد، أو حتى تغيير نظام المياه والكهرباء المجانية.
هذا يعني أن مواطني الخليج لا يعارضون الضرائب من حيث المبدأ، على الرغم من الاعتقاد الشائع بأن انخفاض الضرائب أحد الركائز الأساسية للعقد الاجتماعي الخليجي.
علاوة على ذلك، وجدت الدراسة أن المواطنين الأكثر ثراءً وليس الفقراء هم الأكثر دعمًا لضريبة القيمة المضافة كإجراء تقشف مالي.
قد يكون هذا لأن ضريبة القيمة المضافة هي ضريبة تنازلية بشكل عام تؤثر بشكل غير متناسب على الأشخاص الأفقر. وبدلاً من ذلك، قد يميل مواطنو الخليج الأكثر غنى إلى تفضيل ضريبة القيمة المضافة لأنهم أكثر ثقة في قدرتهم على استرداد دخلهم الضريبي المفقود من خلال وصولهم المتميز إلى قنوات التوزيع الاقتصادي.
أيًا كان التفسير؛ تشير النتائج إلى أن المواطنين الأقل ثراءً والجمهور الخليجي قد يكونون داعمين بشكل خاص لضريبة تقدمية قائمة على الدخل يتحمل فيها الأفراد الأغنياء عبئًا أكبر.
من المرجح أن يؤدي تحسين الشفافية الإجمالية في إنفاق الدولة -أو آلية واضحة لإشراف المواطنين على الإيرادات الضريبية (منفصلة عن إيرادات الموارد)- إلى تعزيز الدعم العام لسياسة الضرائب في جميع المجالات.
ولكن يجب أن تثير النتائج الأخرى قلق صناع القرار السعوديين. فالواقع أن أكثر النتائج التي تمت ملاحظتها طوال دراستنا هي أن انعدام المساواة الاقتصادية هو القوة الدافعة وراء تفضيلات الإصلاح المالي لمواطني الخليج.
تظهر استطلاعات الرأي أن المواطنين مناهضون بشدة لإنفاق الدولة غير الخاضع للرقابة، وخاصة الإنفاق على السياسة الخارجية والاستثمارات التي لا يُنظر إليها على أنها ذات منفعة عامة مباشرة، في وقت تطالب فيه الحكومة بالتضحيات الاقتصادية من الناس العاديين.
ومع ذلك، كان الإنفاق الخارجي الهائل سمة مميزة للمبادرات التي قادها حاكم السعودية الفعلي “محمد بن سلمان” منذ توليه صعوده عام 2015.
وتشمل سلسلة القرارات المتعثرة والمكلفة للغاية حرب اليمن الكارثية، والحصار الاقتصادي المستمر بلا داعي لقطر، واستثمارات المضاربة الخاسرة من خلال صندوق الثروة السيادي الذي يسيطر عليه “بن سلمان” شخصياً، ومؤخرًا حرب أسعار النفط التي استمرت لمدة 10 أيام مع روسيا ودفعت أسواق النفط إلى مستويات لم تشهدها منذ عقدين.
ذهبت تدفقات مالية ضخمة أخرى لدعم أطراف في الصراعات السياسية الخارجية، مثل سوريا ومصر ولبنان والآن ليبيا.
قبل عامين، قدرت تكلفة حرب اليمن وحدها على الدولة السعودية بحوالي 100 مليار دولار، مما أدى إلى نزيف مالي للمملكة بمعدل 5-6 مليارات دولار شهريًا.
ويقدر إجمالي تكلفة الصراع أكثر من 200 مليار دولار.
وقد قدرت البيانات التي جمعها معهد “ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام” الإنفاق العسكري السعودي من 2015 إلى 2019 بنحو 364 مليار دولار. ويضع هذا الرقم المذهل السعودية في المركز الأول كأكبر منفق عسكري في العالم خلال هذه الفترة، حيث أنه يمثل أكثر من 10% من الناتج المحلي الإجمالي و27% من مجموع الانفاق الحكومي كله.
في المقابل، يبلغ عجز الموازنة السعودية المتوقع لعام 2020 نحو 61 مليار دولار.
وتثير تلك الأرقام الحيرة فمع تعرض السعوديين العاديين لضغوط مستمرة للتنازل عن مزايا الرفاهية من أجل الصالح العام للمملكة، يتساءل المرء ما إذا كان أفراد المجتمع، أو مجلس “آل سعود”، قد يبدأون في طلب تحجيم ميزانية “بن سلمان” التي لا يرى لها سقف.
ولإنهاء كل تلك التشابكات الخارجية المعقدة تجد السعودية نفسها واقعة في حالة متناقضة لا تستطيع الفرار منها بسبب شروطها المتناقضة أو حالة “كاتش-22″، كما تراها الأكاديمية السعودية مضاوي الرشيد وغيرها من الباحثين، فمنذ الانتفاضات العربية في عام 2011، استمد نظام الحكم في المملكة شرعيته في الداخل من مزاعم حمايته للسعوديين من أعدائها الداخليين المدعومين من الخارج أو الـ “الطابور الخامس”.
في البداية، اعتبرت الحكومة أن “الطابور الخامس” ظهر في الاحتجاجات المناهضة لها في الأيام الأولى من الربيع العربي وكانوا مواطنين شيعة مدعومين خارجيًا من إيران، ثم حولت المملكة تركيزها في وقت لاحق ليصبح العدو جماعة “الإخوان المسلمون” التي لها صلات مع خصم المملكة الإقليمي، قطر.
بينما في الخارج تعددت مغامرات “بن سلمان” من تدخل السعودية المباشر في اليمن وسوريا ولبنان وصولًا إلى حصار قطر ودعم السعودية المباشر للجهات المناهضة لـ”الإخوان المسلمين” في مصر وليبيا.
من المؤكد أن الخروج من هذه المسارح السياسية والعسكرية سيوفر الكثير من الأموال وربما يجنب المملكة الحاجة إلى المزيد من التقشف على حساب رفاهية الشعب، وبالتالي تعزيز (أو الحفاظ) على الدعم الشعبي على أساس رخاء اقتصادي.
من ناحية أخرى، فإن الانسحاب من ساحات المعارك التي تورطت فيها السعودية منذ الربيع العربي، وخاصة في ظل نظام “بن سلمان”، سينهي عقدًا من سياسة “الإتاوة” أو سياسات العصا التي انتهجتها السعودية للتأكيد على دورها الإقليمي في توفير الأمن والاستقرار في منطقة تعاني من الفوضى.
وإذا لم تستثمر المملكة فيما تعتبره دفاعا عن السعوديين ضد التهديدات الوجودية في الداخل والخارج، فعندئذ ستصبح السعودية، وفقًا للمعايير الإقليمية، مجرد دولة مُصدِّرة للنفط ذات اقتصاد منحدر، عاجزة عن تلبية التوقعات الاقتصادية لمواطنيها، آو احترام العقد الاجتماعي الخليجي للرعاية المالية مقابل الولاء السياسي.
وبالنسبة لـ”بن سلمان” وللعائلة الحاكمة السعودية، فإن هذه الصورة تبدو أسوأ بكثير من النموذج الحالي للملكة كدولة لها دور إقليمي مغامر وسياسات مالية غير مبالية.