عاش السودان يوما تاريخيا بإعلان توصل المجلس العسكري الانتقالي الحاكم في البلاد وتحالف المعارضة الرئيسي اتفاقا على وثيقة دستورية تمهد لتشكيل حكومة انتقالية.
لكن المخاوف ظلت قائمة بشأن دور سلبي معتاد من نظام آل سعود وحلفائه في الإمارات ومصر لتعطيل الانتقال الديمقراطي في البلاد ودعم العسكر للقضاء على مطالب الثورة الشعبية.
وتحدد الوثيقة في الاتفاق المعلن الخطوط العريضة لشكل الحكومة الانتقالية وتم التوصل إليها بعد محادثات توسط فيها الاتحاد الأفريقي وإثيوبيا وجرى تعليقها أحيانا بسبب أعمال عنف في شوارع العاصمة الخرطوم ومدن أخرى.
وينص الإعلان على أن يعين التحالف رئيسا للوزراء بمجرد التوقيع على الوثيقة. وسيُكلف رئيس الوزراء بتشكيل الحكومة بالتشاور مع التحالف. لكن المجلس العسكري سيعين وزيري الدفاع والداخلية.
ويقضي الإعلان أيضا بتشكيل مجلس تشريعي يضم 300 عضو للعمل خلال الفترة الانتقالية. وسيكون لقوى إعلان الحرية والتغيير 67 في المئة من مقاعد المجلس بينما ستسيطر جماعات سياسية أخرى ليست مرتبطة بالبشير على باقي المقاعد.
وفور بدء الحكومة الانتقالية، أو مجلس السيادة، عملها سيبدأ السودان فترة انتقالية تستمر ثلاث سنوات من المتوقع أن تؤدي إلى انتخابات.
واتفق الطرفان الشهر الماضي على أن يتألف مجلس السيادة من 11 عضوا، هم خمسة ضباط يختارهم المجلس العسكري وعدد مماثل من المدنيين يختارهم تحالف قوى الحرية والتغيير إلى جانب مدني آخر يتفق عليه الجانبان. وسيكون رئيس المجلس الأول من الجيش.
وعندما يتشكل مجلس السيادة، سيتم حل المجلس العسكري الحاكم حاليا برئاسة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان ونائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو الذي يرأس قوات الدعم السريع التي وجهت اتهامات لبعض أعضائها بالضلوع في قتل متظاهرين.
ومنذ بدء الثورة الشعبية في السودان التي انطلقت في ديسمبر/كانون الأول الماضي وأدّت في النهاية إلى إطاحة الجيش السوداني برئيس البلاد “عمر البشير” من منصبه وأل سعود وحلفائهم يتدخلون بشكل سلبي لتعطيل الانتقال الديمقراطي في البلاد.
فبخلاف سائر الاحتجاجات السودانية المستمرة التي تركزت مطالبها على الإطاحة بشركاء نظام البشير وتسليم السلطة لحكومة مدنية.
كان آل سعود حسم مواقفه مبكرا بالوقف خلف المجلس العسكري الانتقالي، وسخّر نفوذه السياسي والمالي لتوجيه دفّة الانتقال السياسي في السودان.
تعهدت الرياض بتقديم حزم مساعدات بقيمة 3 مليارات دولار، منها 500 مليون دولار في صورة وديعة مباشرة لدى البنك المركزي السوداني لإيقاف التدهور في قيمة العملة، وهو دعم سخي رد عليه “عبد الفتاح البرهان”، رئيس المجلس العسكري، بالإشادة بالدعم المصري السعودي الإماراتي لبلاده، واصفا المملكة تحديدا بأنها “أفضل أصدقاء السودان في الوقت الراهن” حد تعبيره.
وفي نظر الثوار السودانيين فإن نظام آل سعود يعد من الأنظمة الأكثر عداء للحراك الجماهيري العربي بجميع أشكاله وتنوعاته.
وتسلط هذه المفارقة الواضحة بين الموقف المتشكك للمتظاهرين والثوار السودانيين تجاه ثلاثي الثورات المضادة، وبين موقف السلطة العسكرية الحاكمة حاليا للبلاد، تسلط الضوء على إحدى أكبر معضلات الانتقال السياسي هناك.
ففي حين كانت الثورة السودانية بالأساس احتجاجا داخليا سودانيا ضد الفساد والاستبداد والقمع الذي مارسه نظام البشير على مدار 30 عاما، فإن مصير السودان اليوم لا يبدو أنه يقع في أيدي السودانيين وحدهم، من وجدوا أنفسهم فجأة طرفا في لعبة ضخمة حول السلطة والنفوذ بين مجموعة واسعة من القوى الإقليمية والدولية، وهي لعبة تدور رحاها في الشرق الأوسط بشكل عام، وفي منطقة القرن الأفريقي بشكل خاص.
وتضافرت معها العديد من العوامل لتجعل السودان إحدى أبرز ساحاتها، بداية من الجغرافيا المميزة على البحر الأحمر، ومرورا بالهشاشة الاقتصادية والسياسية التي جعلت السودان دوما غير قادر على الاعتماد على نفسه بمعزل عن الرعاة الأجانب، وليس انتهاء بـ30 عاما من حكم عمر البشير الذي كان يبدل حلفاءه وأعداءه أسرع مما يبدل أحذيته، ضمن مقامرته الكبرى التي صممها من أجل البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة، والتي يبدو أن المجلس العسكري الحالي سيسير على بعض خُطاها.
تنبع القيمة الاستراتيجية للسودان من سِمتين جغرافيتين، أولاهما سواحله الممتدة على البحر الأحمر، وثانيهما نهر النيل الذي يشق قلب البلاد مانحا إياها المياه الوفيرة ومساحات شاسعة من الأراضي الأكثر خصوبة.
وفي حين أن هذه المزايا الطبيعية لم تكن كافية لجعل السودان محطة بارزة للتنافس بين القوى العالمية التي غالبا ما كانت تخشى من التورط في الصراعات العرقية طويلة الأمد في البلاد، فإنها كانت مغرية بشدة للقوى الإقليمية التي توافدت إلى السودان في السنوات الأخيرة بحثا عن الفرص الكامنة في واحد من أفقر بلدان أفريقيا.
منذ سبعينيات القرن الماضي، كانت دول الخليج وبخاصة السعودية في مقدمة القوى الطامحة لاكتساب موطئ قدم في السودان، فرغم انتعاش الخزائن المالية لهذه الدول بفعل عائدات النفط والهيدروكربونات، فقد ظلّت تحمل هواجس كبرى بسبب فقرها المائي وقلة الأراضي الزراعية اللازمة لسد الاحتياجات الداخلية من الغذاء، لذا فإن هذه الدول سارعت مبكرا للاستثمار في القطاع الزراعي السوداني.
لكن العلاقات التي قامت بداية على رغبة طويلة الأمد في ضمان الأمن الغذائي؛ سرعان ما اكتسبت أبعادا جيوسياسية مع قدوم “عمر البشير” إلى السلطة أواخر الثمانينيات عبر انقلاب عسكري، واحتضانه الخطابي للتوجه الإسلامي الثوري الذي وضعه بشكل تلقائي ضمن قائمة حلفاء نظام الثورة الإسلامية في طهران.
تحالف سرعان ما تمخض عن توقيع اتفاقية دفاعية بين البلدين، ما منح إيران موطئ قدم جديدا على الحدود البحرية للسعودية، وفي الوقت نفسه منح طهران الفرصة للاستفادة من السودان كباحة خلفية لطموحاتها الإقليمية، حيث شرعت في بناء مصانع للأسلحة وفتح خطوط إمداد لتزويد حلفائها ووكلائها خاصة حزب الله في لبنان.
بعد ذلك، منحت تغيرات السياسة في الأعوام الأخيرة فرصا أكبر في السودان لأكبر منافسي إيران من دول الخليج العربية، فمع استقلال جنوب السودان عام 2011 بعد حرب أهلية طويلة، ورث الجنوب معظم احتياطات النفط المشتركة سابقا ما تسبب في تقلص عائدات السودان بشكل كبير.
ومع قيام الحرب الأهلية في جنوب السودان لاحقا، وتناقص العائدات التي يحصل عليها السودان مقابل شحن النفط الجنوبي عبر موانئه، أُجبر النظام السوداني على البحث ليس فقط عن مورِّدين بدلاء للنفط، ولكن عن مصادر مختلفة للدخل والسيولة المالية في ظل الأزمة الاقتصادية المُلِحَّة.
كانت تلك فرص لا تُقدّر بثمن للرياض التي تمتلك قدرة على ضخ المال الذي يحتاج إليه السودان بشدة وبكمٍّ لا تستطيع إيران أن تجاريه.
لذا كان 11 مليار دولار من التعهدات باستثمارات السعودية كافية تماما لدفع نظام البشير لتغيير وجهته للضفة العربية من الخليج، وفي المقابل فإن اهتمامات السعودية، وحليفتها الإمارات في السودان، لم تعد تقتصر على الأمن الغذائي.
فمع دخول البلدين إلى الحرب في اليمن مطلع عام 2015، كان الحصول على جحافل من المقاتلين منخفضي التكلفة من السودانيين الفقراء إغراء لا يمكن مقاومته، ويبدو أن الصفقة الضمنية عملت بشكل جيد، ففي مقابل الأموال والاستثمارات الخليجية، قطع السودان علاقاته مع إيران، وقدم 14 ألف مقاتل من الجيش والميليشيات تصدروا الصفوف الأمامية لمعارك التحالف السعودي في اليمن.
بخلاف ذلك، كانت السعودية قد نجحت فيما يبدو في إقناع نظام البشير أن بإمكانهما إقناع واشنطن بتخفيف العقوبات على السودان ورفع البلاد من على قوائم الإرهاب, حال قبلت الخرطوم التخلي عن طهران والتحالف مع الرياض وقبول التعاون مع أميركا في مجال “مكافحة الإرهاب”، وهو ما تحقق جزئيا بإعلان واشنطن مطلع عام 2017 بعد رفع بعض العقوبات عن السودان في الأيام الأخيرة لإدارة أوباما قبل تسلم ترامب رسميا للسلطة، قبل أن تزيل إدارة الأخير لاحقا السودان من لائحة الدول المدرجة في قائمة حظر السفر الأميركي، مُشيدةً بتعاون الخرطوم في مجال تبادل المعلومات الاستخباراتية.
لم تضخ صنابير المساعدات السعودية المال للسودان بالقدر الذي وعدت به في البداية، حيث تخلفت الرياض عن مواعيد العديد من الاستثمارات والحِزم المالية للسودان، وهو ما دفع البشير لاستغلال أزمة مجلس التعاون الخليجي منتصف عام 2017 من أجل المناورة ضد الرياض والتودد إلى خصومها في قطر، رافضا الضغوط السعودية بقطع العلاقات مع الدوحة.
كانت مناورة السودان برفض الانحياز في أزمة مجلس التعاون الخليجي على ما يبدو مدفوعة بتناقص ثقة البشير في وعود الرياض وتيقُّنه بصعوبة الاستغناء عن الاستثمارات القطرية، والتي رغم أن حجمها لا يضاهي حجم نظيرتها السعودية.
فإنها لا تزال ضرورية للحفاظ على اقتصاد السودان الهش في الوقت الذي ظهرت فيه الدوحة أكثر التزاما بوعودها المالية.
وفي الواقع يمكن القول إن البشير نجح لفترة طويلة في استغلال أزمة الخليج عبر الاستفادة من الكتلتين، حيث نجح خلال العام الماضي 2018 على سبيل المثال في تلقي استثمارات كبرى من كلا الطرفين، أبرزها عقد بقيمة 4 مليارات دولار مع الدوحة لاستثمار وتطوير ميناء سواكن على البحر الأحمر.
فبالنسبة إلى الرياض وحلف داعمي الثورات المضادة، فإن نظام البشير لم يكن صديقا حقيقيا، ولكنه كان حليفا متقلبا يمكن أن يبدل ولاءه في أي لحظة، هذا بخلاف انتمائه الأيديولوجي الظاهر كأقدم أنظمة الحكم الإسلامية العسكرية في المنطقة، وهي حقيقة قاسية كان على هذه الدول المعادية بشدة للإسلام السياسي أن تتجاهلها لفترة طويلة في تعاملها مع البشير.
لم تعد الإطاحة بعمر البشير ومستقبل الانتقال السياسي في السودان بعده مجرد قضية حراك جماهيري أطاح بديكتاتور مستبد، ولكنه تحول إلى جولة جديدة في اللعبة الكبرى لمراكز القوى في القرن الأفريقي، ووفقا لما أفرزته نتائج هذه الجولة حتى الآن, تبرز الولايات المتحدة كأبرز الفائزين الدوليين، في حين أن السعودية ومحور الثورات المضادة هو أكبر الفائزين الإقليميين خاصة حال نجاحهم في جلب الاستقرار للنظام العسكري القائم وتفتيت الحراك الشعبي الحالي وتقليل مكاسبه.