تبرز تجاوزات السعودية في اليمن تحايلا كبيرا على دور المملكة الوظيفي الذي يفترض أنه يقتصر على قوة إسناد للسلطة الشرعية ضد خصومها ومنافسيها لكنه تحول إلى دور معاكس تماما.
وتتكشف أجندات القوى الإقليمية المتدخلة في حروب المنطقة من خلال سياستها والنتائج المترتبة عليها، إذ تفشل في الموازنة بين أطماعها ومطالب حلفائها المحليين، بحيث تُجيّر تدخلها لصالحها.
ومع أن المملكة قائدة التدخل العسكري في اليمن، هي بمقياس فاعليتها العسكرية في قيادة عملياتها في اليمن أقل من أن تكون دولةً متمكّنة، فإن تحول اليمن إلى ساحة للصراع السعودي الإيراني، من خلال وكلائهما المحليين، منح السعودية، كما يبدو، ضوءاً أخضر، وأعفاها من المساءلة السياسية والأخلاقية لتبعات وجودها العسكري في اليمن.
فعلاوة على جرائمها بحق اليمنيين، تفرض اليوم إرادتها القسرية على حلفائها المحليين، إذ تحولت من دولةٍ متدخلةٍ مشروط تدخلها بإعادة حليفها الرئيس عبد ربه منصور هادي، رأس السلطة الشرعية، إلى السلطة، إلى دولة تسعى إلى تأبيد الحرب، وبالتالي “تعويم” احتلالها اليمن، من خلال استغلال صراعات القوى المتنافسة في معسكر الشرعية لصالحها، في مقابل استدامة سلطة جماعة الحوثي في المناطق الخاضعة لها، مبررا لاستمرار تدخلها العسكري في اليمن.
فحتى مع تعقيد بُنية الصراع المحلي، وتأثير الأزمة الخليجية على سياقات الحرب في اليمن، فإن الاستراتيجية السعودية، ومن ثم الإماراتية، أدارت كل تلك التعقيدات المتشابكة طوال سنوات الحرب، بغرض تقسيم اليمن بين القوى المحلية المتصارعة.
حيث أصبح تفتيت اليمن هدفا رئيسا للتدخل السعودي الإماراتي، لا خطأ ناجما عن استراتيجيتها في إدارة الحرب، ففي الأخير يمن منهك بقوى محلية متصارعة على السلطة، وبلاد مجزأة وبلا سيادة، هو خيار مثالي لحماية مصالحها الحيوية في اليمن.
تتجلى التجاوزات السعودية في اليمن في التحايل على دورها الوظيفي، قوة إسناد للسلطة الشرعية ضد خصومها ومنافسيها، وتمظهرت تلك التجاوزات في إدارتها صراع فرقاء السلطة في جنوب اليمن.
إذ عزّزت السعودية طوال ثلاث سنوات من تمكين المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من حليفها الإماراتي سلطة أمر واقع في جنوب اليمن، على حساب تقويض ما تبقى من سلطة الشرعية اليمنية.
وتمثل أحداث جزيرة سقطرى أخيرا انكشافاً للسياسة السعودية في اليمن، فقد لعبت قوات الواجب السعودية “808” دوراً رئيساً في تسهيل عملية سيطرة المجلس الانتقالي على الجزيرة، متجاهلةً المواثيق الدولية والأعراف الدبلوماسية التي تنظم وجودها في الجزيرة قوة إقليمية، تستمد مشروعيتها من السلطة الشرعية المعترف بها دولياً التي خولتها للدفاع على الجزيرة، حيث تحولت القوات السعودية إلى طرفٍ في الصراع في جزيرة سقطرى.
ففي مقابل نزع القوة العسكرية لقوات الشرعية بشكل تدريجي، أمنت القوات السعودية استكمال سيطرة قوات المجلس الانتقالي للجزيرة في عملية تسليم نظيفة.
وبالتالي كان حسم السعودية الصراع في جزيرة سقطرى لصالح الانتقالي خياراً بالنسبة لها لشرعنة تمدّد سلطة المجلس الانتقالي في مناطق جنوب اليمن، وإزاحة الشرعية إلى الهامش، مع ارتباط الموقف السعودي بجزيرة سقطرى بمخاوف من احتمالية تحرّك عسكري تركي مفاجئ في السواحل الصومالية المقابلة للجزيرة.
تتكئ السياسة السعودية في إدارة صراع فرقاء السلطة في جنوب اليمن على تسويق نفسها طرفا محايدا في الصراع، إذ يمنحها ذلك دور الوسيط لفرض رؤيتها للحل السياسي على المتصارعين، وبالتالي تمرير أجندتها، بينما يكشف أداؤها السياسي والعسكري أنها طرف رئيس في الصراع، ففي حين أعاقت فرص تعافي السلطة الشرعية، فإنها وظفت الصراعات البينية في معسكر حلفائها لتغيير المعادلة السياسية في جنوب اليمن.
فقد فرضت السعودية “اتفاق الرياض” صيغةً سياسيةً لاقتسام السلطة، لا يمكن أن يتجاوزها المتصارعون، ومن ثم شرعنت المجلس الانتقالي بوصفه قوة سياسية وعسكرية وطرفا يماثل الشرعية، من حيث المشروعية السياسية، فيما تجاهلت التصعيد العسكري من المجلس الانتقالي، والذي أفضى إلى إعلانه الإدارة الذاتية في مدينة عدن، وفي جزيرة سقطرى أخيرا، بما في ذلك حيادها في معارك مدينة أبين، مع إعلانها وقف إطلاق النار وإرسال لجنة لمراقبة خطوط النار.
وهو ما يؤكد تقاطع الرؤية السعودية – الإماراتية في إدارة جنوب اليمن، ويزيح نظرية خلاف الحليفين مع تنافسهما على جني الثمار، لصالح توافق الغايات النهائية، وليس بالضرورة تبني الأدوات المحلية نفسها، فإضافة إلى تواطؤ السعودية أمام تنمية الإمارات المجلس الانتقالي قوةً خارج مظلة الشرعية، فإن الأكيد هنا أن إعلان المجلس الانتقالي الإدارة الذاتية في مدينة عدن، ومن ثم سيطرته العسكرية على جزيرة سقطرى، تم تحت مظلة السلطة السعودية في جنوب اليمن، وليس تحت الإدارة الإماراتية.
وبالتالي، فإن الدعم السياسي السعودي للمجلس الانتقالي حقق ما لم يحققه الدعم العسكري الإماراتي، فيما تضغط الدبلوماسية السعودية، في الوقت الحالي، على مكونات الشرعية المجتمعة في الرياض، لتنفيذ “اتفاق الرياض” وفق رؤيتها المبتسرة لحل الصراع، وتجاوز إعلان المجلس الإدارة الذاتية للجنوب، وأحداث سقطرى.
لا يمكن أن تُحل مشكلة الصراع في جنوب اليمن بإصرار الدبلوماسية السعودية على تجاهل المسارات العسكرية التي صاحبت تفجر الصراع في جنوب اليمن، بما في ذلك الإجراءات الفردية التي أعلنها المجلس الانتقالي باعتساف “اتفاق الرياض”، والضغط على السلطة الشرعية بقبول تقديم الشق السياسي على الشقين، العسكري والأمني، وتشكيل حكومة مناصفة بين فرقاء الصراع في الجنوب، وإنما يرحلها مؤقتاً لتتجدد في دورات عنفٍ لاحقة.
إذ يقفز الحل السعودي على بنود “اتفاق الرياض” التي تتضمن أولا تنفيذ بنود الملحق الأمني والعسكري، وإخراج المعسكرات من المدن، ودمج قوات المجلس الانتقالي في الجيش اليمني، وذلك للتهيئة لتشكيل السلطة بين المتصارعين، ومن ثم فإن السعودية التي تراكم فشلها في اليمن، على الرغم من أنها في ورطة حقيقية، إلا أنها تسعى إلى تعميق المشكلات في معسكر حلفائها في مقابل التسويق لحل جاهز يغذّي الصراعات البينية.
ومع استمرار الضغوط السعودية على حلفائها في الرياض، لتمرير صفقتها؛ في كل الحالات، تصبّ تسوية “اتقاق الرياض” الحالية في صالح المجلس الانتقالي والسعودية، لا في صالح الشرعية، حيث يخدم توجّه السعودية بالانفتاح على حلفاء محتملين في الجنوب، بما في ذلك حلفاؤها في الشمال.
إذ تدرك السعودية أنه لا يمكن الاتكال على حلفائها في شمال اليمن فقط من القبائل أو الجناح الموالي لها في حزب التجمع اليمني للإصلاح، فإضافة إلى تغير ولاءات القبائل، فإنها تخشى من تغلب حزب الإصلاح، الأمر الذي يزعزع نفوذها في الشمال لصالح خصومها.
لذلك ترى السعودية ضرورة تنويع شبكة حلفائها في جنوب اليمن، حيث الثقل الاقتصادي والثروات النفطية، ولا تقتصر على القوى الجنوبية المعارضة للمجلس الانتقالي، وبعض المكونات السلفية كقوات “العمالقة”، وإنما الانفتاح على المجلس الانتقالي، فإذا فشلت في تحويله إلى قوةٍ مواليةٍ لها، فإنها على الأقل تستطيع استمالته، من خلال تمكينه من فرض أمر واقع في جنوب اليمن، والضغط على حلفائها لمشاركته في الحكومة المرتقبة، بما يمنحها غطاءً سياسياً لادارة وجودها العسكري في جنوب اليمن مستقبلاً، في حال تغيرت منظومة السلطة الشرعية، فمع كون الرئيس هادي مظلة سياسية مثالية بالنسبة للسعودية لتحقيق أهدافها في اليمن، فإن الانفتاح على حليف محلي طموح يعزّز من حظوظها في الجنوب، إلى جوار الإمارات، الحليف الرئيس للمجلس الانتقالي.
يمضي تشظي اليمن جغرافياً وسياسياً بخطىً حثيثة، وعلى مرأى العالم، نتيجةً بديهيةً لتأبيد الحرب لصالح المحتربين المحليين والإقليميين، إذ يبدو أن “تعويم” احتلال اليمن هو الهدف الأخير للتدخل السعودي، بدءاً بحرف سياقات الصراع المحلي إلى صراعاتٍ أصغر في إطار الحرب الكبرى، مقابل تعزيز حضورها العسكري والسياسي في اليمن، وقولبته بحسب السياقات السياسية المتغيرة، بما في ذلك عدم الحرج من دعم قوى محلية منافسة للسلطة الشرعية التي تدّعي الدفاع عنها، وإدارة صراعات القوى المحلية لصالح بقائها قوةً عليا تنفرّد بتقرير مصير اليمن وتقسيمه “على ما يشتهي الوزان”.