لم يدوم الفساد المالي السعودي طويلا في الدول التي حاول نظام آل سعود شراء ولاءها، وتجميل صورتهم أمام شعوبها حتى انتفض أحرارها لمحاسبة مسؤوليهم ومعاقبتهم بين السجن والإبعاد.
وأزج فساد آل سعود بشخصيات عربية وأجنبية بالسجن، فيما نفت ملوك آخرين من بلادهم.
الشخصية الأولى: رئيس الوزراء الماليزي السابق نجيب عبد الرزاق، الذي أصدرت محكمة ماليزية، مؤخرا، حكما بحقه بالسجن 12 عاما بعد أن أدانته بالفساد، وذلك في أول محاكمة تتعلق بفضيحة مالية بمليارات الدولارات في صندوق الاستثمار الحكومي (1إم.دي.بي) والتي امتدت إلى دول الخليج وهوليوود.
وحكم قاضي المحكمة العليا محمد نزلان محمد غزالي بالسجن 12 عاما على نجيب وغرامة قدرها 210 ملايين رينجيت (49.4 مليون دولار) بتهمة إساءة استغلال السلطة.
وقضت المحكمة كذلك بسجن نجيب (67 عاما) عشر سنوات عن كل تهمة من ثلاث بخيانة الأمانة وثلاث بغسل الأموال من أجل الحصول دون سند قانوني على نحو عشرة ملايين دولار من وحدة إس.آر.سي إنترناشونال التي كانت تابعة للصندوق.
وقبل القاضي طلبا قدمه محامو نجيب بإرجاء تنفيذ حكم السجن والعقوبة المالية، لكنه طلب من نجيب دفع كفالة إضافية والحضور إلى قسم للشرطة مرتين شهريا.
وكان نجيب قد دفع ببراءته وقال إنه سيطعن على حكم المحكمة الاتحادية الماليزية إذا ما أُدين. وثمة احتمال بأن تلغي المحكمة العليا الحكم جزئيا أو كليا لدى استئنافه، غير أن ذلك قد يستغرق سنوات.
والملايين العشرة تقريبا الخاصة بقضية شركة إس.آر.سي ما هي إلا نذر يسير من الأموال المتهم نجيب بالحصول عليها بشكل غير قانوني من صندوق الاستثمار الحكومي الماليزي (1إم.دي.بي).
ويقول الادعاء إن أكثر من مليار دولار من أموال الصندوق وصلت إلى حساباته الشخصية ويواجه بشأنها إجمالا 42 اتهاما جنائيا.
وتقول الولايات المتحدة والسلطات الماليزية إن 4.5 مليار دولار في المجمل يُعتقد أنها سُرقت من الصندوق الذي أسسه نجيب واستخدمت في أرجاء مختلفة من العالم لشراء قطع فنية ويخت فاخر وتمويل فيلم (وولف أوف وول ستريت) “ذئب وول ستريت”.
وقال المدعون أيضا إن 27 مليون دولار استٌخدمت لشراء عقد من الألماس الوردي لزوجة نجيب، روسمة منصور، وبعض الأموال ذهب لتمويل حملات نجيب الانتخابية.
ودفع محامو نجيب بأنه تعرض للتضليل من جانب رجل الأعمال الماليزي جو لو ومسؤولين غيره بالصندوق على نحو جعله يظن أن الأموال التي تدخل حساباته الشخصية منحا من الأسرة الحاكمة في السعودية وليست مختلسة من وحدة إس.آر.سي كما يقول الادعاء.
الشخصية الثانية: ملك إسبانيا السابق خوان كارلوس الأول، الذى أعلن القصر الملكي، قبل أيام، نيته للمغادرة في خطوة وصفت بأنها محاولة لحماية الملكية بعدما تكشفت قضية فساد.
وقال القصر إن خوان كارلوس (82 عاما) وجه خطابا إلى ابنه الملك فيليبي السادس يوضح فيه أنه يريد له أن يتمكن من الحكم دون متاعب “في خضم التداعيات العامة التي تسببت فيها أحداث ماضية بعينها في حياتي الخاصة”.
وأضاف الملك السابق “تحدوني الرغبة في أن أفعل أفضل ما في مصلحة الشعب الإسباني ومؤسساته وأنتم كملك. أبلغكم بقراري… مغادرة إسبانيا في هذا الوقت”.
ويأتي قرار الرحيل عن إسبانيا في أعقاب تطورات في تحقيقات قضائية بشأن تلقي خوان كارلوس 100 مليون دولار من آل سعود، مقابل قيامه بوساطة لإبرام صفقة إنشاء خط القطار الرابط بين مكة والمدينة.
وفي سبتمبر/أيلول 2018، فُتح تحقيق قضائي بعد نشر تسجيلات نسبت إلى عشيقة خوان كارلوس السابقة كورينا لارسن، أكدت فيها أن الملك تلقى عمولة خلال منح شركات إسبانية عقدا ضخما لتشييد خط قطار فائق السرعة في السعودية.
وقال خابيير سانتشيث خونكو محامي الملك السابق إن موكله سوف “يبقى تحت تصرف مكتب المدعين” على الرغم من قراره مغادرة البلاد.
ويتمتع ملوك إسبانيا بحصانة قضائية خلال شغلهم المنصب، لكن خوان كارلوس تنازل عن العرش لابنه عام 2014، وهو ما يمكن أن يجعله عرضة للمحاكمة.
وأوقف الملك فيليبي المخصصات الملكية لوالده، وأعلن تنازله عن ميراثه منه في مارس/آذار الماضي بعد مزاعم عن حسابات سرية في الخارج.
وجلس خوان كارلوس على العرش عام 1975، بعد وفاة الجنرال فرانسيسكو فرانكو، ونال احتراما كبيرا للغاية لدوره في قيادة إسبانيا من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، لكن شعبيته انهارت في سنوات تالية بسبب سلسلة من الفضائح، مما دفعه للتنازل عن العرش.
الشخصية الثالثة: الرئيس السوداني المعزول عمر البشير، الذى يقضى حاليا حكما بالسجن، بعدما أقر نهاية عام 2019م خلال جلسات محاكمته، بتلقي 90 مليون دولار نقدا من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
وقال الفريق شرطة أحمد علي في بدء جلسات محاكمة البشير بتهمة الفساد، التي حضرها صحافيون، إن الرئيس السابق أبلغه بأن الأموال “قام بتسليمها عدد من الموفدين من محمد بن سلمان”.
وقال المتحري إن “البشير أقر باستلامه 25 مليون دولار من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، و65 مليونا من الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز”.
كما أقر البشير أيضا باستلامه مليون دولار من الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات.
ولم يحدد المتحري فترة زمنية دقيقة لاستلام البشير للأموال المذكورة، مكتفيا بالإشارة إلى أن الأموال التي وجدت بحوزة الرئيس المعزول هي ما تبقى من المبلغ الذي استلمه من محمد بن سلمان، أي بقية الـ25 مليون دولار، وكان يصرفه على التبرعات والهبات للخدمات التعليمية والصحية.
ويحاكم البشير بتهم تتعلق بالفساد وحيازة نقد أجنبي و”الثراء الحرام”، على خلفية العثور على مبالغ مالية كبيرة في منزله.
وفي سياق متصل، هناك “صفقة اليمامة”: سلسلة من مبيعات الأسلحة من بريطانيا إلى السعودية بدأت عام 1985، تلقت مقابلها لندن ما يصل إلى ستمئة ألف برميل من النفط السعودي الخام يوميا.
وتوصف الصفقة بأنها الأضخم في بريطانيا والأكثر ارتباطا بالفساد الذي تورط فيه أمراء سعوديون.
وأبرمت المملكة وشركة “بي أيه إي سيستمز” البريطانية لصناعة الأسلحة في سبتمبر/أيلول 1985″صفقة اليمامة” التي تجاوزت قيمتها 43 مليار جنيه إسترليني (حوالي 56 مليار دولار أميركي). وتمت الصفقة بدعم من رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر.
ووقع وزير الدفاع البريطاني الأسبق مايكل هيزلتاين ونظيره السعودي الأمير سلطان بن عبد العزيز المرحلة الأولى من صفقة اليمامة التي نصت على تزويد السعودية بـ 102 طائرة حربية (72 من طراز تورنيدو وثلاثين من طراز هوك) بالإضافة إلى مجموعة كاملة من الأسلحة وأجهزة الرادار وقطع الغيار، وبرنامج تدريب للطيارين.
وبدأت شحنات طائرات “بي أيه إي سيستمز” إلى السعودية عام 1989.
وأحيطت الصفقة بسرية تامة بطلب من العائلة الحاكمة بالسعودية، وحاولت حكومة تاتشر إخفاء كل التفاصيل المهمة عن الصفقة لسنوات، لكن وثائق رسمية نشرت عام 2016 في بريطانيا كشفت أن تاتشر أجرت محادثات سرية مع حُكّام السعودية عام 1985 بشأن أكبر صفقة أسلحة، والتقت الملك آنذاك فهد بن عبد العزيز قبل خمسة أشهر من إبرام الصفقة.
وأظهرت الوثائق الجهود الحثيثة التي كانت تبذلها حكومة تاتشر لبيع طائرات تورنيدو ومن طرازات أخرى للسعودية.
وتمكن الإعلام البريطاني من رفع السرية عن تلك الصفقة، من خلال التقارير التي أوردتها تباعا وكشفت فيها حجم الفساد الذي شاب الصفقة والمتعلق بعمولات لأفراد بالأسرة الحاكمة السعودية.
ونشرت صحيفة إندبندنت في مايو/أيار 2004 مقالا أوردت فيه أن الصفقة تمت بمساعدة حساب مصرفي سري كان بمثابة القناة التي تم عبرها دفع رشى، وأن وزارة الدفاع فتحت تحقيقا في دفع “بي أيه إي سيستمز” لأكثر من ستين مليون جنيه خلال تنفيذ الصفقة.
واعترفت الشركة البريطانية بأنها قدمت “خدمات مساعدة” لمسؤولين سعوديين معتبرة أن ذلك ليس منافيا للقانون، وذلك في رسالة مؤرخة في نوفمبر/تشرين الثاني 2005 وجهتها إلى مكتب مكافحة الفساد الذي كان يحقق حينها في احتمال تلقي رشى في صفقة اليمامة.
وجاء التحقيق الذي أجرته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) يوم 7 يوليو/تموز 2007 ليكشف المزيد من الأسرار المخفية، حيث أكد أن السفير السعودي السابق في الولايات المتحدة الأميركية الأمير بندر بن سلطان -والذي لعب دور المفاوض عن الرياض في صفقة اليمامة- كان قد تلقى أكثر من ملياري دولار على مدى عقد من الزمن كعمولات مقابل دوره في إبرام الصفقة المذكورة.
وأشار التحقيق إلى أن وزارة الدفاع البريطانية وافقت على المدفوعات السرية.
كما نشرت صحيفة غارديان يوم 18 يناير/كانون الثاني 2008 تحقيقا عن وجود أدلة على طلب أفراد من الأسرة المالكة بالسعودية عمولات مالية مقابل دورهم في إبرام صفقات سلاح بين الرياض ولندن.
ويقول المعلق بالصحيفة سايمون جينكينز إن الصفقة كانت منذ بدايتها محاطة بالفساد، حيث إن الوسطاء كانوا يطلبون في كل مرحلة من مراحلها إيداع عمولات في حسابات سويسرية وشقق وغيرها، مشيرا إلى أن كل شيء دخل هذه الصفقة، وذلك كما ورد في حديث الصحفي بالشريط الوثائقي الذي يحمل عنوان “سوداء اليمامة” وبثته قناة الجزيرة في أغسطس/آب 2012.
وتحدث أيضا المالك السابق لشركة ” ترافرلز وورد” بيتر غاردينز بشريط وثائق “سوداء اليمامة” عن الخدمات التي كانت تقدمها شركة “بي أيه إي سيستمز” للمسؤولين والأمراء السعوديين، قائلا إنها شملت حجوزات طيران وفنادق ورعاية طبية وغيرها.
ومن بين الخبايا التي كشفها غاردينز أن الشركة البريطانية دفعت فاتورة شهر عسل طويلة لابن الأمير تركي بن ناصر، وسيارة رولز رويس الفخمة قدمها هدية لابنته نورة.
وبشأن المستفيدين من صفقة اليمامة، يؤكد رئيس قسم التحقيقات في غارديان أن الأمير سلطان وابنه بندر كان لهما النصيب الأكبر، بالإضافة إلى الأمير تركي بن ناصر زوج ابنة الأمير سلطان الذي كانت له أيضا صلة وثيقة بالصفقة.
ونفى الأمير بندر بن سلطان عام 2007 اتهامات صحفية بريطانية بتقاضيه رشى بلغت أكثر من مليار إسترليني، أي ما يعادل ملياري دولار في إطار صفقة اليمامة للأسلحة.
وبعد اتهام شركة الأسلحة البريطانية بدفع رشي لمسؤولين سعوديين لضمان حصولها على عقود من الرياض، قام مكتب مكافحة التزوير البريطاني بفتح تحقيق في صفقة اليمامة في نوفمبر/تشرين الثاني 2004، لكن الحكومة البريطانية التي كان يقودها حينها توني بلير قررت وقف تحقيق صفقة اليمامة.
وأغلق النائب العام البريطاني السابق اللورد غولدسميث التحقيق في ديسمبر/كانون الأول 2006 لأسباب تتعلق بحماية الأمن القومي بعد تهديد السعودية بوقف تعاونها الأمني مع لندن في مجال مكافحة الإرهاب.
ووفق صحف بريطانية، فإن العائلة الملكية السعودية هددت عام 2007 بإلغاء الجزء النهائي من عقد اليمامة لشراء 72 مقاتلة من طراز تايفون بمئات الملايين من الجنيهات ما لم توقف الحكومة البريطانية تحقيق الفساد.
غير أن قرار حكومة بلير جلب له انتقادات واسعة داخل بريطانيا وخارجها، بينما قضت المحكمة العليا في نوفمبر/تشرين الثاني 2007 بأن مكتب مكافحة التزوير خرق القانون بقراره وقف التحقيق بقضية الفساد المتعلقة بصفقة الأسلحة السعودية، وأمرت بفتح تحقيق قضائي شامل في قرار الحكومة وقف التحقيق في صفقة اليمامة.
واعتبرت واشنطن حينها أن القرار البريطاني وضع حكومة بلير أمام تهمة خرق لكل من روح ومبادئ ميثاق منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، كما رفعت عدد من الدول شكوى بهذا الصدد إلى اجتماع لمجموعة مكافحة الرشى التابعة لمنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي.
وعادت قضية صفقة “اليمامة” إلى الواجهة في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، بعد أن قالت عضو البرلمان البريطاني عن حزب العمال آن كلويد إنها ستقدم طلبا للجنة العلاقات الخارجية لإعادة فتح التحقيق في قضايا الفساد المرتبطة بالصفقة.
وأشارت كلويد إلى أن إعادة فتح التحقيق في صفقة اليمامة سيكون مناسبا في سياق الاعتقالات الأخيرة بالسعودية على خلفية قضايا فساد، في إشارة إلى الحملة التي شنتها اللجنة العليا لمكافحة الفساد التي شكلها الملك سلمان بن عبد العزيز برئاسة ولي العهد محمد بن سلمان وطالت عددا من الشخصيات البارزة، بينهم عدد من الأمراء والوزراء الحاليين والسابقين والمسؤولين ورجال الأعمال.