استشهد المواطن عبدالرحيم الحويطي، وسمح قاتليه ظلما بعد أكثر من أسبوع بدفنه في قريته لكن قصته أصبحت خالدة في وعي المجتمع السعودي وتاريخ المملكة كمثال حي عن رفض الظلم.
لم يتم تسليم جثة الحويطي إلا بعد ضغط حقوقي وإعلامي كبير على منصات التواصل الاجتماعي ليم بدفنه في قريته وسط إجراءات أمنية مشددة بحضور عدد كبير من ذوي القتيل وأهالي قريته الخريبة في منطقة بتوك شمال غربي المملكة.
وجاء قتل الحويطي بعد نشره مقطع فيديو يرفض فيه تهجير قبيلته لصالح المشروع الذي يعد من أبرز مشاريع ولي العهد محمد بن سلمان في إطار رؤيته 2030.
وكان شادي أبو طقيقة شقيق عبد الرحيم قال إن شرطة منطقة تبوك وضعت شروطا لاستلام جثة شقيقه، منها ألا يدفن في قريته الخريبة، وأن يكون الدفن في تبوك، وأن يقتصر حضور الجنازة على عدد محدود من الأشخاص.
وأضاف أنهم لم يوافقوا على هذه الشروط لرغبة والدته وجميع أشقائه بأن يدفن في الخريبة إلى جانب والده.
لحظة استقبال جثمان #شهيد_نيوم بعد أسبوع من استشهاده بيد عملاء الظالم #بن_سلمان وبأمره
أرعبهم حياً وأذلّهم ميّتاً
الله يرحم #عبدالرحيم_الحويطيى pic.twitter.com/E8sOcjXKcO— د. حنان العتيبي (@Dr_Utaybi) April 22, 2020
لكن انتهاء مراسم دفن الحويطي لا يعني انتهاء قصته، إذ أن اسمه سيبقي دائما حاضرا كمثال حي على رفض الظلم وسيبقي حاضرا عند كل حديث عن سراب مشروع نيوم ومقاومة التهجير القسري لاسيما من قبيلة الحويطات.
وتعود أصول الحويطات إلى الحجاز، المدينة المنورة تحديدًا، حيث ارتحلوا في عدد من الهجرات منذ العصر الإسلامي إلى نطاق ما يعرَف بـ”بادية الشام”، وهو الحزام الجغرافي المطل على البحر الأحمر وخليج العقبة، الذي يفترض أن يشهد ولادة مشروع “نيوم” الجديد.
وعلى مستوى النسب، تتفرع “الحويطات” وكل العشائر والبطون التي انسلخت عنها من نسل “جماز” بن هشام بن سالم بن مهنا بن جماز، الذي يصل نسبه، كما يجمع رجال الأنساب، إلى الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب، حيث تعد الحويطات من “أشراف” الجزيرة العربية.
استقرت “الحويطات” منذ مئات السنين في الحزام الحدودي المطل على البحر الأحمر، من تيماء وشمال نجد جنوبًا إلى الكرك شمالًا
ولعل هذا النسب كان أحد الأسباب التي ساعدت “الحويطات” على الاندماج في نسيج “الدولة العربية الحديثة” التي قامت على أكتاف “الثورة العربية الكبرى” مطلع القرن العشرين، حيث يشهد تاريخ المملكة الهاشمية الأردنية بالفضل إلى “عودة بن حرب أبو تايه” الحويطي، الذي قاتل بجوار الشريف الحسين بن علي في هذه الثورة.
وقد وثق الأنثربولوجي الفرنسي أنطون جاسان، مطلع القرن العشرين في كتابه “العادات العربية في بلدة مؤاب” وجود أكثر من خمس “عشائر” تابعة للقبيلة في الأردن، هي جازي والذيابات والدماني والتوايه والركيبات، بحوزتها نحو 400 خيمة، كما كانت الحويطات في مصر، خلال نفس الوقت، تمتلك 950 جملًا، موزعين على سبع عشائر، متفوقةً في ذلك على أكبر قبائل سيناء، مثل العيايدة والأحيوات والترابين، مؤكدًا أن “علاقتهم كانت طيبة مع مصر أكثر من أي قطر عربي آخر”.
وبشكل عام، استقرت “الحويطات” منذ مئات السنين في الحزام الحدودي المطل على البحر الأحمر، من تيماء وشمال نجد جنوبًا إلى الكرك شمالًا، ومن وادي السرحان وصحراء النفوذ الكبرى شرقًا إلى ساحل خليج العقبة وشبه جزيرة سيناء غربًا.
وكأي قبيلة تسري عليها مخرجات الدرس “الأنثربولوجي”، حيث تستمد القبيلة هويتها من علاقتها بالمكان، سواء على المستوى المادي (التفاعل مع الطبيعة والأدوات) أم على المستوى الرمزي (تراث الأجداد)، أبدت الحويطات مخاوف واضحة من مخطط “نيوم” الذي قد يقضي على تاريخها، بعد أن يهجر الأهالي وتندرس معالم المكان ويصبح أطلالًا، خاصة في السعودية، مهد المشروع وراعيته والمستفيد الأول منه.
وحتى منتصف يناير/كانون الثاني 2020، كان أهالي الحويطات يدشنون أوسمة تفاعلية على موقع “تويتر” يطالبون فيها الحكومة بإيجاد صيغةٍ توافقية تمضي من خلالها في مشروعاتها التنموية، دون أن تخرجهم من ديارهم التي تمثل “عرضهم وهويتهم”، مستأنسين في ذلك بتجربة إمارة “دبي” وغيرها من المدن التي راعت الخصوصية الثقافية للمكان قبل تطويره.
منذ ذلك الوقت، أخذت المشكلة بين سلطات آل سعود والحويطات تسير في شد وجذب، يلتقي شيوخ القبيلة وممثلوها بالحاكم الإداري للمنطقة الأمير فهد بن سلطان لإخباره بأن القبيلة متجذرة في هذه المنطقة، فيجيبهم بأن الدولة تعلم ذلك ولكن لا أحد بمقدوره معارضة مشروعات ولي العهد، ومن ثم فإن أفضل حل ممكن هو الموافقة على التعويضات السخية، حتى ظهر عبد الرحيم الحويطي.
سار عبد الرحيم الحويطي أو عبد الرحيم أحمد محمود الحويطي كما عرف نفسه، بالخلاف مع الدولة السعودية إلى نقطة اللاعودة، حيث قال الحويطي، لأول مرة على العلن، إن السلطات تمارس ضغوطًا هائلة على أهالي المنطقة للقبول بالتعويضات المالية مقابل مغادرة عدد من القرى المأهولة، الخريبة وشرمة وديالا وعصيلة، التي تدخل في نطاق المرحلة الأولى من مشروع “نيوم”، بمساحة كبيرة تصل إلى 1500متر مربع.
وبحسب ما ذكره الحويطي، فإن معركة تكسير عظام خفية كانت تدور بين الدولة التي تمتلك السلطة الرمزية والدعم الديني “من العلماء الفاسدين” والعنف المشروع، وبين أهالي الحويطات الذين يتعرضون إلى “إرهاب دولة” بسبب رفض معظمهم القبول بالتعويضات التي تعرضها: “كل من قال أنا ضد الترحيل أو لا أرغب، على طول داهمته المباحث أو الطوارئ، اعتقلوا تسعة أشخاص”.
ما دفع الحويطي إلى رفض أي إغراءات أو تهديدات، كما وضح، أن البيت يملكه بصك شرعي “ملك شخصي، ملك خاص، ملكي كمواطن، وليس ملك الدولة”، وأنه، والمنطقة، يمثلان، ثقافيًا، كل هويته: “هذه وطني، هذه منطقتي، لو كانت هذه المنطقة في مصر ولا في الأردن ولا حتى في الصين، إذا خرجت منها، سواء في السعودية أو أي دولة، عندي سيان.. أنا مصبرنا على هذه الدولة، والظلم والفساد الحاصل فيها، ما صبرنا إلا هذه الديرة”.
وقد توقع الحويطي أن تلجأ سلطات آل سعود إلى معاقبته على قرار رفض الخروج من بيته بالقتل، ثم تبرير مقتله بكونه مسلحًا مناوئًا للدولة، عبر وضع قطعة سلاح بجانب جثته بعد موته، على غرار ما تفعله قوات الأمن المصرية مع المعارضين ورافضي التهجير القسري من سكان شبه جزيرة سيناء (الجانب الآخر من الحدود)، منوِهًا أنه لا يعبأ بالموت، حال إجباره على الخروج من بيته: “الحياة لا تقاس بطول الأعمار، عند مبادئك، عند أرضك، عند وطنك، مهما كانت النتائج، السجن والقتل عندي سيان”.
وكما توقع الحويطي أو “أبو أنس الطيب” كما يلقب في “الخريبة”، قامت قوات أمن الدولة بتصفيته ومصادرة بيته في حزام “نيوم” الأولي، تاركةً وراءه ابنًا وبنتين، متهمةً إياه بمقاومة السلطات وإصابة اثنين من الشرطة بطلق ناري في أثناء تنفيذهم أمرًا بالقبض عليه كـ”مطلوب”، في اشتباك بالرصاص الحي تمترس خلاله خلف بعض السواتر الرملية أعلى منزله.
بعد بث الحويطي مقاطع الفيديو التي تتهم سلطات آل سعود بإرهاب أهالي “تبوك” لترك أراضيهم، وقبل مقتله مباشرة، كان السؤال المطروح هو: “هل يجوز للدولة إجبار المواطنين على التنازل عن ملكياتهم لمصلحةٍ عامة؟”.
تقول المنظمة الأوروبية السعودية لحقوق الإنسان في هذا الصدد، إن المادة العاشرة من “الإعلان العالمي لحقوق الشعوب الأصلية” الذي صوتت عليه الرياض عام 2007، تنص على أنه “لا يجوز ترحيل الشعوب الأصلية قسرًا من أراضيها أو أقاليمها، ولا يجوز أن يحدث النقل إلى مكان جديد، من دون إعراب الشعوب الأصلية المعنية عن موافقتها الحرة والمسبقة والمستنيرة، وبعد الاتفاق على تعويض منصف وعادل، والاتفاق، حيث أمكن، على خيار العودة”.
وفي نفس السياق، أكد باحثون شرعيون، باعتبار السعودية تحتكم إلى القوانين الإسلامية حصرًا، أن مجمع الفقه الإسلامي، وبعد اجتماعه في جدة عام 1988 لبحث مسائل “نزع الملكية وحدود سلطة الدولة على الناس”، نص على عدم جواز نزع ملكية العقار، إذا كان العقار المنزوع من مالكه سوف يوظف في الاستثمار العام أو الخاص.
لكن، بمقتل الحويطي بهذه الطريقة، نجحت سلطات آل سعود في سحب المسألة القانونية/الشرعية، محل النظر العام، التي ترجح أدلتها كفة خصمها، إلى معترك آخر مختلف تملك وحدها خلاله حق الادعاء، وهو القول بإن رجالها قتلوه “دفاعًا عن النفس”، قبل أن يقتلهم هو.
شكك مراقبون في رواية آل سعود، نظرًا لما وصفوه بالخصومة الواقعة بين الطرفين، وهو الأمر الذي يجرح شهادة الطرف المعتدي، خاصة إذا كان هذا الطرف بدوره متفوقًا في ميزان القوة، بالإضافة إلى تأخر السلطات في إخراج البيان الذي يدعي مقتل الحويطي في اشتباك مسلح لمدة يومين، وأسباب أخرى مثل حديث المقتول عن تخوفه من هذا السيناريو قبل حدوثه، وتنويهه في نهاية مقاطعه المصورة عن رغبته في اختصام السلطات السعودية والشركات المستثمرة في مشروع “نيوم” أمام “القانون الدولي”، وهو ما عده قانونيون “قرينةً” تنفي نيته الانخراط في أي نزاع مسلح.
بعد مقتل الحويطي بات معروفًا للجميع، أن نيوم، من جهة المملكة على الأقل، لن يمر إلا على أجساد القبيلة وتاريخها، مما دفع كثيرًا من مدوني القبيلة إلى استحضار العداء التاريخي بين الحويطات والمملكة وإمكانية تطوره مستقبلا.