محمد بن سلمان والحكم بقضبة أمنية
حوّل ولي العهد محمد بن سلمان عبر إطلاق أيادي تركي آل الشيخ وأمثاله في البلاد المملكة من دولة استبدادية محمولة نوعاً ما ضمن نظام ملكي لا حياة سياسية ودستورية فيه، إلى دولة ذات قبضة أمنية تلاحق الدعاة والشعراء والناشطين لمجرد تغريدة تنتقد مؤسسة ترفيهية ومسؤولاً ذا رتبة صغيرة، ما كمم الأفواه وزاد القمع.
فمنذ عام 2016، بدأ وجه المملكة يتغير مع الإعلان عن رؤية 2030 الاقتصادية، التي رافقتها سلسلة من الإجراءات التي بدأت تُحول المملكة من دولة محافظة إلى منفتحة بشكل مفاجئ، وصاحب ذلك اعتقالات طالت أبرز الدعاة والناشطين والناشطات الذين كانت لهم مطالب إصلاحية في البلاد.
ولا يعد القيام بحملات اعتقالات داخل المملكة أمراً مستحدثاً، لكن انتقاد المسؤولين الصغار خارج دائرة العائلة كان ممكناً، إلا أن ذلك تغير حالياً وبات أحد الأسباب المؤدية إلى السجن أو المجهول.
وفي الأسابيع الأخيرة شنت سلطات آل سعود حملة اعتقالات يبدو أنها واسعة؛ تزامناً مع إطلاق “موسم الرياض الترفيهي”، ضد كل من ينتقد هيئة الترفيه أو رئيسها تركي آل الشيخ، الذي عُرف عنه إثارة الجدل داخل الأوساط الشعبية في المملكة.
فقد قامت القوى الأمنية باعتقال الشاعر حمود بن قاسي السبيعي، ومصمم الفيديو قنصل بن سبيع؛ على خلفية مقطع فيديو ينتقد ممارسات رئيس هيئة الترفيه، وفق حساب “معتقلي الرأي” المهتم بنشر أخبار المعتقلين السعوديين.
كما استدعت السلطات الشاعر الشعبي سفر الدغيلبي؛ للتحقيق معه بسبب قصيدة تضمنت انتقادات غير مباشرة لـ”آل الشيخ”.
ولحق ذلك اعتقال شيخ قبيلة “عتيبة”، فيصل بن سلطان بن جهجاه بن حميد، أيضاً على خلفية تغريدات انتقد فيها هيئة الترفيه عبر رئيسها، ودعا فيها إلى أن يكون الترفيه بطريقة منطقية ومقبولة من دون المس بجوهر الدين والثوابت.
وأخيراً وليس آخراً، ذكرت مصادر أن السلطات اعتقلت شاعر قبيلة “الشرارات”، عايد رغيان الوردة الشراري، رغم أنه رجل مسنٌّ تجاوز الثمانين من عمره؛ وذلك لانتقاده هيئة الترفيه عبر قصيدة له.
وجاء في قصيدة الشاعر السعودي انتقاد واضح لرئيس هيئة الترفيه تركي آل الشيخ بذكر كنيته ضمن الأبيات، بالإضافة لاعتباره الهيئة تعنى باللهو والابتعاد عن الفطرة والتاريخ والدين الإسلامي.
ولا يمكن حصر جميع أسماء المعتقلين، فمن الوارد أن يخشى أهل بعض المعتقلين على أبنائهم أو ذويهم فلا يذكرون أسماءهم خوفاً عليهم من ازدياد التهم أو فترة الاعتقال.
ويبدو أن تركي آل الشيخ له رمزية تتصل بمحمد بن سلمان شخصياً، فهو من أبرز المقربين له، ومستشار في الديوان الملكي بمرتبة وزير، وسبق أن رأس منصب الهيئة العامة للرياضة، والذي أثار الجدل خلال رئاسته لها بشكل كبير.
ويبدو أن خلفية الرجل العسكرية أثناء عمله في وزارة الداخلية ومن ثم مكتب وزير الدفاع، جعلت منه شخصاً لا يتقبل الانتقاد أبداً، وأمنت له صلات أمنية تساعده في القبض على كل من يجرؤ على التغريد ضده على مواقع التواصل الاجتماعي.
يضاف إلى ذلك أن انتقاد ما يقوم به هو انتقاد صريح لخطط محمد بن سلمان الاقتصادية الانفتاحية التي يسعى من خلالها لتأمين أكبر قدر ممكن من الأموال بعد هدر مقدرات المملكة في دعم الانقلابات العسكرية بدول الربيع العربي، وتمويل جماعات مسلحة توقف تحقيق الديمقراطية أو تسعى للانفصال في أخرى، بالإضافة لحرب اليمن، وتكديس السلاح عبر دفع مئات المليارات للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وخسائر الاستهدافات المتكررة للمنشآت الحيوية والنفطية.
في الوقت الذي يُسمح فيه بانتقاد الدين أو التهكم على دعاة السعودية البعيدين عن السلطة بشكل عادي لم يكن موجوداً من قبل، خصوصاً أن المملكة ذات التوجه المحافظ كانت في السابق لا تسمح بانتقادات من هذا النوع.
ويبدو أن العقلية الأمنية في البلاد العربية مشتركة، وإن اختلفت درجاتها في التعامل مع الشعب وانتقاداته لما يجري في بلاده من تغيرات وأوضاع سيئة.
وسبق لصحيفة “الواشنطن بوست” الأمريكية أن قالت: إن “على الرياض أن تفهم أن حقوق الإنسان والحريات الأساسية قيم عالمية وليست ملكاً للملوك والديكتاتوريين ليقوموا بشكل عشوائي بمنحها أو منعها”.
وأضافت الصحيفة في تقرير، لها عام 2018، أن “ممارسات الرياض تمتد عقوداً طويلة تتنكر لحقوق الإنسان الأساسية للمواطنين وخاصة النساء، وتتعامل بقسوة مع بعض المنتقدين، علماً أن هذه التصرفات حساسة، ومن ثم فالتدخل فيها أمر مشروع لجميع الديمقراطيات والمجتمعات الحرة”.
وترى الصحيفة أن محمد بن سلمان، الشاب الذي تولى ولاية العهد وأجرى سلسلة من التغييرات الاجتماعية في المملكة ويسعى لتحديث اقتصاد بلاده بعيداً عن النفط، لا يرى كيف تتقوض رؤيته المستقبلية عندما يلقي القبض على المنتقدين ويزج بهم داخل السجون ويتصرف مثل مستبد في دولة بوليسية.
من جانبها قالت صحيفة “لوموند” الفرنسية، في فبراير 2019: إن “العاصمة السعودية الرياض تعد واجهة المشروع السلطوي للحداثة الذي أطلقه محمد بن سلمان”.
وفي مقال له بالصحيفة استهل الكاتب بانجامان بارت بمشهد عايشه قرب برج المملكة في حي العليا الفاخر؛ حيث رفضت شابتان الانصياع لأمر دورية شرطة الأخلاق، أي “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، التي طلبت منهما تغطية رأسيهما.
ويشرح الكاتب في المقال كيف تراجعت الدورية حين ردت الشابتان بالقول إنهما غير معنيتين بأمرهم “لأن العهد عهد بن سلمان”، وفق ما نقل موقع إذاعة “مونت كارلو الدولية”.
واعتبر بارت أن “المشهد يكشف الوجه الجديد للرياض، حيث تتزامن ظاهرة تراجع الأصولية والانفتاح مع أجواء الرعب التي أرساها نظام ولي العهد”.
وأشار أيضاً في مقاله إلى امتناع عدد كبير ممَّن التقاهم عن التعبير عن رأيهم، ونقل عن رجل أعمال غربي “شعور جميع الموظفين في الوزارات بالخوف”، وأردف الرجل قائلاً: إن “السعودية لم تكن يوماً دولة بوليسية، لكنها لم تعد بعيدة عن مثل هذه الحال”.
لقد أدى التغيير المفاجئ في الدولة السعودية إلى حدوث ارتباك وصدمة في صميم المجتمع السعودي المحافظ، الذي كان يعيش أدبيات الحلال والحرام منذ الطفولة عبر تدريس ذلك في المدارس التي تفرض دراسة الفقه والأحكام الشرعية إضافة إلى العلوم الأخرى، مع منع ما يجري الآن بحجة أنه محرم.
لكن ذلك تغير فجأة، وتم نسيان الحديث عن الحلال والحرام في بلاد الحرمين الشريفين مع استلام “بن سلمان” منصب ولاية العهد، في يونيو 2017، تجسّد ذلك في انفتاح هائل بمجالات الموسيقى والغناء والمرأة والاختلاط، في حين قيّد من جانبٍ آخَر الأصوات التي ترفض هذا الانفتاح.
وسريعاً كان انتشار حفلات الرقص المختلط في السعودية، والتي وصفتها شبكة “بلومبيرغ” الأمريكية، في تقرير سابق لها، بأنها محاولة لإخفاء “الجانب المظلم” لولي العهد.
وظهرت فتيات سعوديات في حفلات غنائية بحالة رَفَضَها السعوديون، بحسب ما عبّروا عنه في مواقع التواصل الاجتماعي؛ إذ كنّ يرقصن ويتمايلن مع الموسيقى.
ودعم بن سلمان سلسلة قرارات قضت بالتخلّي عن عدد من القوانين والأعراف الرسمية التي اعتمدتها البلاد على مدار عقود؛ أبرزها السماح للنساء بقيادة السيارة، وكذلك دخولهن ملاعب كرة القدم، فضلاً عن إقامة عرض للأزياء وافتتاح دور سينما، وهو ما واجه انتقادات شريحة واسعة من المجتمع.