أثبت تحقيق تلفزيوني بثته قناة الجزيرة القطرية كذب رواية نظام آل سعود التي روجها طويلا بشأن حادثة إنهاء حصار الحرم المكي عام 1979.
وكشف برنامج “ما خفي أعظم” عن التفاصيل الدقيقة للعملية الدامية لفك حصار الحرم وعرض وثائق تثبت أن دولا أجنبية أسهمت في عملية التحرير على خلاف رواية آل سعود التي تقول إن الجيش السعودي وحده هو الذي تولى العملية.
وتمكن البرنامج من لقاء قائد الفريق الفرنسي بول باريل، وأحدِ القناصة الفرنسيين كريستيان لامبرت، اللذين شاركا في العملية التي قضت على جماعة “جهيمان” داخل الحرم؛ وكشفا فيه تفاصيل تُنشر لأول مرة عن كيفية حسم المعركة، كما قدر الضابط باريل عدد قتلى عملية تحرير الحرم بين ثلاثة آلاف وخمسة آلاف، وليس ثلاثمئة كما تقول رواية آل سعود.
وكانت الرياض كشفت -وللمرة الأولى- في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 عن صور تتعلق بعملية تحرير الحرم المكي، لكن الرواية السعودية تنكر وجود أي مساعدة أجنبية في تحرير الحرم.
وخلافا لرواية آل سعود، نشرت الجزيرة وثيقة صادرة عن وزارة الدفاع الفرنسية بعنوان “مهمة مكة”، تتضمن شكر المملكة على المساعدة التي قدمتها دولة صديقة في تحرير الحرم المكي.
وإجابة عن سؤال: لماذا لا تريد السعودية الإفصاح عن مشاركة دولة أجنبية؟ يقول باريل إن هذا الأمر سيتسبب في إحراج لآل سعود، لذلك فإن هذا الأمر ظل قيد السرية طيلة الأعوام الأربعين الماضية.
وكيف وقعت الحكاية؟ كان ذلك في فجر يوم 20 نوفمبر/تشرين الثاني 1979، عندما اقتحمت جماعة مسلحة تتبع جهيمان العتيبي الحرم المكي، وأغلقوا جميع منافذه وأبوابه، واستطاع جيهمان العتيبي الاستيلاء على مكبر صوت الإمام، وتحدث للحجاج، الذين يقدر عددهم بخمسين ألف حاج ومصل كانوا يستعدون لصلاة الفجر، وطلب من المسلمين الإطاحة بآل سعود الذين تخلوا عن تعاليم الدين وأصوله، وطالبهم بمبايعة المهدي المنتظر، الذي كان في الحقيقة صهره عبد الله القحطاني.
تمكن إمام الحرم من الهرب، ووصل القصر الملكي الساعة السابعة مساء، ولكن الملك الذي كان نائما لم يعلم الأمر إلا الساعة السابعة والنصف.
فما كان من الملك إلا أن أصدر أوامره للحرس الملكي بمحاصرة الحرم، والقضاء على المسلحين، قبل أن تتسرب الأنباء للخارج.
ويبدو أن الجيش السعودي لم ينجح في القيام بالمهمة التي أرسل لها، حيث حصل “ما خفي أعظم” على وثيقة من السفارة الأميركية بتاريخ 24 نوفمبر عام 1979 موجهة لوزارة الخارجية الأميركية تشير فيها إلى أن سلطات آل سعود تقول إن عملية تحرير الحرم المكي قد أنجزت.
لكن الوثيقة الأميركية تشير إلى أن المملكة استعانت بطيارين أميركيين، للتحليق فوق الحرم، وقامت السفارة بالتحقيق مع الطيارين بعد كل طلعة جوية لهما، حيث أكدا وقوع أضرار كبرى بالحرم المكي.
وبمرور الوقت، وبدء تسرب الأنباء، وإثارة قلق كبير في العالم الإسلامي؛ وضعت السعودية خططا لتحرير الحرم، منها العمل على إغراقه بالمياه، ثم تسريب الكهرباء وصعق المتمردين، لكن هذه الخطة لم تتم لإن إغراق الحرم يتطلب كميات كبيرة من المياه، ويوقع قتلى بين الحجاج أيضا، كما أن هذه المياه ستتسرب داخل الأرض.
وما زاد حرج سلطات آل سعود بدء حدوث قلاقل وفوضى بعدة مدن بالبلاد، كما كانت عاجزة عن إصدار فتوى تتيح القتال في الحرم المكي والقضاء على المتمردين، وتزامن ذلك مع تمكن جماعة الجهيمان من إيقاع خسائر في الجيش السعودي.
فما كان من المملكة إلا أن طلبت العون من فرنسا، وكان وزير الداخلية السعودي التقى ذات مرة قائد الوحدات الخاصة بول باريل، وأعجب بمهاراته، فطلب مساعدته هو شخصيا.
وبموجب تكليف رسمي فرنسي، ومن الرئيس الأسبق جيسكار ديستان مباشرة؛ توجه باريل واثنان من زملائه؛ أحدهما يدعى كريسيتان لامبرت، وكان ثلاثتهم من أشهر القناصة في العالم في ذلك الوقت إلى الرياض، حيث التقوا ملك السعودية خالد بن عبد العزيز آل سعود وكبار القادة العسكريين.
ويقول باريل لـ”ما خفي أعظم” إنه عندما التقى المسؤولين السعوديين كانوا بحالة قلق وارتباك كبرى، ولم تكن لديهم أية معلومات عن المسلحين، حتى ما يتعلق بعددهم وعتادهم.
بدأ باريل ورفيقاه تدريب الجيش السعودي، الذي كان في حالة نفسية متردية، كما كان يجهل أفراده كيفية استخدام أقنعة الغاز، وكانت سترات الوقاية لديهم ليست فعالة، فتولى الجنود الفرنسيون تدريبهم، وأعطوهم سترات واقية، مما زاد من ثقتهم وقدرتهم على مواجهة المسلحين.
وبعد تقدير باريل حجم المشكلة؛ طلب من سلطات بلاده إرسال ألفي قنبلة غاز، تزن سبعة أطنان، ويتميز هذا الغاز بقدرته على إصابة المستهدف بالعمى، ويعزز رغبة الهروب لديه، لكن السلطات الفرنسية -في البداية- رفضت طلبه، وأرسلت له وثيقة اطلع عليها “ما خفي أعظم” تصف فيها طلبه بالجنون، وتطلب منه اتلاف الوثيقة فور قراءتها.
لكن الرئيس الفرنسي سأل باريل عن نسبة توقعه لنجاح العملية، فأجابه 85%، فأمر بتزويده بما طلب، ويقول باريل إن السعوديين كانوا يريدون الحصول على عشرة أضعاف هذه الكمية، لأنهم كانوا يريدون إنهاء الحصار وإنقاذ نظام الحكم بالمملكة بأي ثمن.
قامت خطة باريل وصديقيه على استهداف قناصة جماعة الجهيمي الذين كانوا يسيطرون على الأماكن المرتفعة بالحرم، وأجبروهم على التوجه للغرف السفلية، وهي تقدر بـ370 غرفة، ومن خلال أجهزة رصد الزلازل تمكن باريل وفريقه من تحديد الغرف التي يوجد بها المسلحون، فقاموا بحفر ثقوب فيها، وفي صباح اليوم التالي، الموافق 1979/12/4 قاموا برمي الغاز من خلال الثقوب، فقتل المتمردون الذين كانوا متواجدين فيها.
وبعد ذلك تمت السيطرة على الحرم، وفتحت ممرات آمنة، حيث سعت سلطات آل سعود للقبض على من تبقى من المتمردين، مؤكدا أن لجان الفرز الأمنية كانت تعمل بسرعة سعيا للفرز بين الحجاج والمسلحين، وقال إنه شاهد عمليات إعدام ميدانية.
أما عن المكافأة التي حصلت عليها فرنسا، فكانت عبارة عن صفقات أسلحة فرنسية وعقود ضخمة، والمقابل كان الصمت على ما جرى، وبدا ذلك من رفض لامبرت الإجابة عن سؤال عما إذا كانوا دخلوا الحرم المكي؟ وهو السؤال الذي رد عليه باريل بدبلوماسية قائلا إنهم كانوا يتحركون في كل مكان وفي الغرف السفلى، ولا يعرفون بالضبط أين هم، موضحا أن أيا من السعوديين لم يسألهم عن ديانتهم، إنما كان السؤال عن دقة الأسلحة التي لديهم.
ورغم سعادة باريل بنجاح العملية، فإنه لم يخف ألمه، واصفا ذلك بالمجزرة التي قتل فيها خمسة آلاف شخص، بينهم ثلاثة آلاف حاج على الأقل، حسب تقديره