تصدر خبر وفاة الحقوقي البارز عبدالله الحامد داخل سجنه بفعل التعذيب والإهمال المتعمد وسائل الإعلام والصحف العالمية ونعته كبرى المنظمات الحقوقية الدولية ما شكل لطمة جديدة لسجل نظام آل سعود المخزي في حقوق الإنسان.
بدا أن الحامد حاصر نظام آل سعود في موته كما فعل طوال حياته وهو يتعرض لاغتيال متعمد لأن سجّانيه تركوه ينزف دماغيّاً في الزنزانة مدة طويلة قبل نقله إلى المستشفى، ولأنهم أهملوا رعايته الصحية، على الرغم من سائر إشارات الخطر التي أرسلها جسده المنهك قبل ذلك.
تم نعي الحامد بوصفه داعية ثابتاً على مواقفه لم يقبل المساومة على مبادئه، منذ أطلق دعوته الشهيرة بضرورة تحويل نظام الحكم في المملكة من ملكية مطلقة إلى ملكية دستورية، ولم يتراجع عن هذه الدعوة منذ عام 2004، وثمّة من حمّل النظام الذي لا يثير حفيظته خطبٌ، مهما استفحل خطره، إلا أن يخدش مواطن عرشه بدعوات إلى الإصلاح السياسي، مسؤولية موت الحامد.
من الناعين للحامد منظمات حقوقية أشادت بالراحل وندّدت بالحاكم، ولم يفتها أن تقدّم عرضاً موجزاً عن حياة الحامد النضالية، ولا سيما أنه كان أحد مؤسسي لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية وجمعية الحقوق المدنية والسياسية في السعودية، وكان ثالث ثلاثة رفضوا التعهد بوقف نشاطهم السياسي في مقابل إطلاق سراحهم.
ذلك كله وأزيد قيل عن هذا الداعية، بعباراتٍ تقطر أسىً، ولا سيما أن رحيله تزامن مع غرّة شهر رمضان المبارك من جهة، ومع هيمنة الحدث الكوروني عالميّاً على ما عداه، وهو ما كبت ضوضاء كان يمكن أن تكون أغزر صخباً لو كان العالم هادئاً وراصداً اغتيال المعارضين.
وفي الشأن الكوروني، تحديداً، تبدو تلك المقولة محقّة؛ لأن فيروس كورونا سياسيّ، أيضاً، وقابل للتحالف مع فيروسات الاستبداد إذا كان الضحية شعوبًا تعاني الويلات.
في مثل هذه البيئة الخصبة تعبر جثث المعارضين إلى قبورها خفية، وبأقل عدد من المشيِّعين، كما حدث مع جثمان عبد الله الحامد، بذريعة “الوقاية من خطر الوباء”، والمقصود بالوباء، طبعاً، المعارض الذي تخشى أنظمة الاستبداد عدواه الفكرية والسياسية بأشدّ مما تخشى كورونا والطاعون وسائر الأوبئة المهددة حياة البشرية.
رحل الحامد رافض التعهد بوقف نشاطه السياسي، غير أن الرفض لم يرحل، وهو ما فات الطغاة، والناعين ربما. وهو، أيضاً ما يبيح لنا تدوين نبأ الرحيل بصيغة أخرى: “أطلق الموت سراح شيخ المصلحين السعوديين، عبد الله الحامد، في غرّة رمضان، عن 70 عاماً، بعد أن عجز الجلاد عن سجن أفكاره ومعتقداته، ويقينه بحتمية الإصلاح في مملكة الرمال لا محال”.
على هذا النحو، ينبغي أن يدرك الجلاد أن الحرية تجيء أحياناً على هيئة موتٍ للضحية، ما يضعه في حالة إرباكٍ حقيقيّ، هو الذي كان يريد للضحية أن تظلّ حبيسة زنزانته وسوطه، لا يحرّرها من قضبانه أي سببٍ مهما كان، ولا حتى الموت الذي لا يجيء بإذنه وحساباته هو، فيشعر حينها بأن موت الضحية خارج نطاق إرادته هو من أشكال التمرّد على سلطته، تماماً كما حدث مع ذلك العبد الذي اعتبر نفسه حرّاً، لأنه مات هارباً خارج مزرعة سيّده.
معلومٌ أن لا حدود لاستخفاف نظام آل سعود في ضروب تعامله مع المعارضة، وما تمزيق جسد جمال خاشقجي في القنصلية ببعيد.
من جهته قال الكاتب عبد الله العودة -في مقال نشرته صحيفة واشنطن بوست- إن عبد الله الحامد توفي بعد دخوله في غيبوبة وهو في السجن. ووفقا لعائلته، حُرم الناشط السعودي من إجراء عملية قسطرة قلبية.
وبعد أن أغمي عليه، تُرك الحامد لساعات ملقى على الأرض قبل نقله إلى وحدة العناية المركزة في مستشفى الشميسي بالرياض، وذلك حسب شهود عيان. لذلك، يجب تحميل السلطات مسؤولية وفاة الحامد البطيئة، كما يقول العودة.
والحامد، الذي توفي عن عمر 69 سنة، يعد بلا منازع أبرز الإصلاحيين في المملكة. كان ناشطا مخضرما وأحد المخططين البارزين للحركة التي طالبت بتشكيل دستور والانتقال نحو الديمقراطية.
ولفت الكاتب إلى أنه قبل مقتل الصحفي جمال خاشقجي بوحشية عام 2018، شارك قصة مع جمهوره حول رد الأسرة المالكة على الالتماسات المتداولة. وبناء على طلب الملك عبد الله، لدراسة الاستجابة المناسبة للربيع العربي التي ينبغي أن تتخذها السعودية، والطرق التي يمكن للمملكة أن تمنع بها الاضطرابات التي كانت تهز الدول المجاورة.
وباستثناء الأمير سلمان (آنذاك) والأمير خالد الفيصل، خلصت اللجنة إلى ضرورة إجراء انتخابات عامة ووضع آليات ديمقراطية والمزيد من الحريات. ومع ذلك، تم تعليق الأمر فجأة عندما اعتلى الملك سلمان العرش عام 2015 وعين ابنه محمد وليا للعهد.
وصرّح الكاتب بأنه في إحدى محادثاته الأخيرة مع خاشقجي، وصف الحامد بأنه “(نيلسون) مانديلا السعودي” وأعرب عن أسفه لأن قضيته لم تلق الاهتمام أو الغضب العالمي الذي تستحقه. ومثل مانديلا، الذي حطمت كلماته وحركاته نظام الفصل العنصري، سيبقى إرث الحامد الديمقراطي في السعودية.
وكان الحامد فُصل من عدة وظائف شغلها، كما تعرض للاعتقال في مناسبات عديدة، وكانت المرة الأولى عام 1993، وآخر مرة في 9 مارس/آذار 2013، وحُكم عليه بالسجن 11 سنة.
الحامد الذي ناضل من أجل “سعودية حرة” وقع عام 2013 -إلى جانب العديد من المفكرين والناشطين السعوديين البارزين- على عريضة “رؤية الأمة الحالية والمستقبلية” التي دعت إلى تمكين المواطنين من الحقوق الأساسية وإجراء الإصلاحات السياسية، مثل الانتخابات، وفصل السلطات، وإنهاء الاعتقالات التعسفية.
مع انتشار العريضة، اجتمع الحامد، رفقة آخرين، بولي العهد (آنذاك) الأمير عبد الله بن عبد العزيز الذي ادعى مشاركتهم لآرائهم وقال لهم “رؤيتكم هي رؤيتي، ومشروعكم هو مشروعي”. ولكن مرت السنوات، وتوفي الملك عبد الله دون أن يفي بوعوده للحامد وزملائه.
رغم الاعتقالات المتكررة للحامد، فإنه أسس عام 2009 رفقة زملائه الجمعية السعودية للحقوق المدنية والسياسية (حسم) التي وصفت بأنها كانت مشروعًا سياسيًا يهدف إلى القيام بما فشلت الدولة السعودية في تحقيقه لفترة طويلة: التمثيل والتنوع والديمقراطية والحرية.
على عكس العديد من المحادثات السياسية التي تتكشف بالمملكة، تجاوزت “حسم” الاختلافات الأيديولوجية والسياسية والطائفية وحققت شعبية واسعة بين مختلف فئات المجتمع. وعام 2011، وقّع عدد غير مسبوق من المواطنين على عريضة تاريخية “نحو دولة الحقوق والمؤسسات” التي دعت إلى الديمقراطية وتوسيع الحقوق والحريات.
وأفاد الكاتب أن الحامد كان له تأثير خاص ومدمر على شبكة الفساد داخل المملكة. وفي كتبه العديدة، أعاد تفسير الأساس التقليدي للفكر السياسي الإسلامي الحالي، وأبطل القاعدة الأيديولوجية التي يستخدمها “رجال الدين المتشددون” الذين ترعاهم الدولة لتبرير السلطة المطلقة والأنظمة الاستبدادية.
إضافة لذلك، أعاد الحامد تفسير العقد الإسلامي، المعروف بالبيعة، للتأكيد على ضرورة توفر الموافقة الثنائية حتى يصبح أي عقد ساري المفعول. وبموجب هذا التفسير، ستكون موافقة الناس عنصرا ضروريا لأي عملية سياسية تعتبر صالحة.
وما جعل الحامد فعالا للغاية أنه تبنى خطابا لم يمح التقاليد السياسية أو يرفض السياق المحلي، بل أعاد تفسيرها بطريقة أشركت الجمهور في صنع القرار، مما يمهد الطريق للديمقراطية والحريات الأساسية.
غير أن الدولة اعتبرت أفكار الحامد تهديدا وجوديا للنظام الملكي. وفي محاولة لإسكاته وزملائه الذين دعوا إلى الديمقراطية، حظرت جمعية الحقوق المدنية والسياسية في البلاد، واعتقلت الأعضاء المؤسسين وجمدت أصولهم.